بقلم:سام منسى
كل العيون شاخصة على مفاوضات وقف النار في غزة وإطلاق الرهائن، إنَّما وعلى الرغم من الجهود الحثيثة المبذولة، لا يبدو المشهد وردياً، وقد تتعثر كما حصل سابقاً لنعود إلى المربع الأول. لكن لنفترض أن المفاوضات نجحت، واتفق على المطالب والمطالب المضادة على كثرتها وتعقيدها بفضل الجهد الأميركي؛ وبخاصة الدبلوماسي والعسكري، وأعلنت الهدنة وأطلقت الرهائن وتم احتواء حرب أوسع في المنطقة بين إسرائيل وإيران، ومن خلفها «حزب الله»، ماذا ينتظرنا في اليوم التالي؟ وهل سيفتح هذا النجاح الباب أمام مزيد من المفاوضات التي قد تفضي إلى حل شامل؟
في الواقع، اليوم التالي في غزة مكبل بعدد من الإشكاليات والأسئلة الصعبة قد يبدد التفاؤل بوقف آلة القتل، وتوفير مساحة لمزيد من المفاوضات المتممة. أولى هذه الإشكاليات هو مصير «حماس» ودورها في غزة والصيغة التي ستسمح ليحيى السنوار بممارسة مهامه قائداً لها من فوق الأرض، وليس من الأنفاق والخنادق، في الوقت الذي تحمّله إسرائيل شخصياً مسؤولية التخطيط لعملية 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وتطالب برأسه مع عدد آخر من مساعديه. لا شك أنَّ نجاح المفاوضات سيعطي «حماس» نفحة حياة، ولا شك أيضاً أنَّ مصيرها سيبقى مرتبطاً بالقضية الإقليمية الكبرى؛ وهي دور إيران في المنطقة، واستمرار دعمها لوكلائها ما دامت تعدّهم ضرورة لنفوذها الإقليمي.
هذا لا يلغي أنها خارجة منهكة من حرب مدمرة يحملها الفلسطينيون قبل الإسرائيليين مسؤوليتها، وتعاني انقسامات وشقوقاً جمة بين «حماس الخمينية» و«حماس الإخوانية»، كما الداخلي والخارجي. لن تعود «حماس» إلى حكم غزة، لكن سيناريوهات استمرار وجودها فيها متعددة قد تشمل انضمامها مجردة السلاح إلى حكومة وحدة وطنية مع السلطة الوطنية، أو حكومة تكنوقراط تشارك فيها بصمت، أو الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية تحت اسم مختلف. في جميع الأحوال، ومهما كانت طبيعة وجودها، المرجح أنها ستستميت للاحتفاظ بقدرات عسكرية وكذلك بمبادئها السياسية.
وينسحب ذلك الاحتمال في لبنان على «حزب الله» الذي إن طبق القرار 1701، فلن يقلب صفحة المقاومة، وسيظل البيدق الأساسي في خطة إيران: لا حرب شاملة تطولها ولا تسوية شاملة للقضية الفلسطينية تنعدم معها «شرعية» تدخلها في المنطقة، بل حروب متنقلة وفتيل جاهز دوماً للاشتعال وفقاً لمصالحها.
الإشكالية الثانية تكمن في عقل بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة، إضافة للانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي التي تعمقت بعد تحول حرب غزة إلى حرب استنزاف. بات واضحاً أن هذه الحكومة تنكر الحقوق الفلسطينية كافة، وأعطتها عملية طوفان الأقصى سبباً للدخول في حرب سعت من خلالها إلى استئصال القضية الفلسطينية من جذورها، وليس فقط القضاء على «حماس»، ونراها تستدعي حرباً موسعة تجر العالم إليها؛ وعلى رأسه الولايات المتحدة. قد يعتقد البعض أن نتنياهو أخطأ عندما أمر باغتيال إسماعيل هنية في طهران وفؤاد شكر في بيروت بفارق 7 ساعات. لكنَّه في الواقع تقصّد ذلك رفعاً لمستوى استفزازاته، ليرفع بالمقابل من مستوى رد إيران و«حزب الله» عليه بما يجرهما، خصوصاً طهران، إلى الحرب المباشرة. الحرب الموسعة هي الطفل الذي يرعاه نتنياهو، ولن تستطيع هذه الحكومة بتركيبتها التكيّف مع الرؤية الدولية لليوم التالي في غزة التي عبر عنها الرئيس جو بايدن، عندما أوضح أن لديه أولوية واحدة لمتابعتها في الفترة المتبقية له بمنصبه: إنهاء حرب غزة واستعادة عملية صنع السلام الأميركية في الشرق الأوسط.
المشهد أعلاه ليس وردياً؛ بل وحمال لحروب مستقبلية. علمتنا التجارب في المنطقة أن الدبلوماسية التي تداوي موضع الألم ولا تتوجه إلى المسببات والمعالجة الجذرية الشاملة لا تكفي، وما يجري يبقى بعيداً عن الدبلوماسية الهادفة لتسوية شاملة. هل هذه اللحظة هي المناسبة لتغيير مسار المنطقة؟ وهل يمكن فيما تبقى من وقت التأمل بتسويات وسط حدة التوتر بين الأطراف المتنازعة؟ يفترض معظم المراقبين أن بايدن سيعجز عن إنجاز الكثير في الأشهر المقبلة، بينما يعتقد آخرون أنَّ بمقدوره التركيز على إبرام صفقة تطبيع إسرائيلية - عربية من المرجح أن تكون مشروطة بإنهاء الحرب في غزة وتسوية شاملة. كل ذلك بحاجة إلى دور نشط جريء للشريك العربي الذي ينبغي أن يتطلع إلى حلول دبلوماسية شاملة ومستدامة تنشل المنطقة من حال التخبط ومآسي دورات العنف.
طبعاً لن يأتي السلام بين عشية وضحاها، لكن الفرصة لا تزال سانحة لدفع إدارة بايدن المنخرطة في مسار دبلوماسي منذ أشهر، وكامالا هاريس التي تتطلع إلى أربع سنوات في البيت الأبيض، إلى رسم مسار مختلف هادف. لا أحد يستطيع محو مآسي الأشهر التسعة الماضية، لكن النهج الأفضل القادر على مداواتها ومعالجة تداعياتها هو البدء بفصل جديد في الشرق الأوسط، ويجب على بايدن ونائبته - كما العرب - عدم إضاعة الفرص المتاحة.