بقلم - سام منسى
بادرتني إحدى الزميلات الإعلاميات بالسؤال عن مهلة الـ100 يوم التي تُعطى للحكومات الجديدة، وهي معتمدة غالباً في الدول الطبيعية أي الديمقراطيات التي تتأثر برأي عام تتهيب قدرته على المحاسبة، وبالتالي على التغيير، ويتمسك بالتداول السلمي للسلطة.
غير أن لبنان كما نعهده ليس من هذا القبيل، حيث لا وجود لرأي عام وطني عابر للطوائف ولا محاسبة تتجاوز التحزب والفئوية، وتاريخنا يدل على أنه لا حكومة حققت ما وعدت به في البيانات الوزارية ولم تكن واحدة منها صادقة في وعودها. بالطبع، لم يتسنَّ بعد لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي الوقت الكافي للحكم عليها، إضافة لما ذكرنا أعلاه، بدأت تتهاوى يوم إعداد البيان الوزاري مع وصول شاحنات المحروقات الإيرانية التي استقدمها «حزب الله» عبر المعابر الحدودية غير الشرعية بين لبنان وسوريا، في خطوة رمزية للتأكيد من جديد على هشاشة حدود الكيان ووهن سيادته، ومَن يمسك زمام الأمور، وأن هذه الحكومة كما سالفاتها ستكون مكبلة سواء في إدارة الأزمة أو الحكم أو إجراء الإصلاحات.
والمهمة الأخيرة هي التي يقال إن هذه الحكومة شكّلت من أجلها أقله في الشق المالي والاقتصادي، لا سيما أن رئيسها من الداعين المؤمنين بفصل المشاكل المالية والاقتصادية والإنمائية عن القضايا السياسية. إنما يبدو أن التطورات السياسية والأمنية الأخيرة شغلت اللبنانيين تماماً عن معضلات مثل تبخر أموال المودعين في المصارف وأزمة الدواء والاستشفاء وسعر الصرف والكهرباء والمحروقات، إلى ما هنالك من مشاكل معيشية حادة دفعت ما يعادل ثلثي الشعب إلى خانة الفقر والعوز. وانتقل الثقل إلى الأحداث الأمنية في منطقتي الطيونة وعين الرمانة على خلفية التحقيق الجاري في تفجير مرفأ بيروت، وتهديد حسن نصر الله بـ100 ألف مقاتل على أتم الاستعداد والجهوزية للحرب ولتأديب الفريق الآخر. وبتنا ومعنا لبنان بهاجس كيفية تفادي حرب أهلية يخشى ألا تكون مفترضة.
وقعت الأطراف كافة في هذا الفخ عن دراية أو غفلة، وبدأ السجال بين الرابح في غزوة الطيونة الذي يكاد يسكر بنشوة الانتصار وقدرته على تلقين الغزاة درساً قاسياً والمنتفض على المهانة والمهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور. دخل البلاد والعباد مجدداً في صلب حقيقة الأزمة، وهي قضية فائض قوة «حزب الله» وهي سبب الاستعصاء السياسي في البلاد. وتراجعت قضايا المال والاقتصاد الضاغطة بقسوة غير مألوفة وعدنا مهرولين من دون أي كوابح نحو المجهول في السياسة والاقتصاد معاً.
ما العبرة الممكن استنتاجها جراء ما حصل ويحصل في العلن والسر منذ 14 أكتوبر (تشرين الأول)؟
بداية ورغم التباين الحاد في تقييم ما حدث، تبقى الترجمة السياسية أن الحزب لا يزال ممسكاً بشكل واضح بالحكومة وسائر الأجهزة والمؤسسات. ويجدر تذكير المنتشين بالنصر بأن غزوة 7 مايو (أيار) 2008 شهدت سقوط أعداد كبيرة تفوق بكثير الذين سقطوا في الطيونة، لا سيما إبان معارك الحزب في منطقة الجبل، خاصة الشوف، وكانت نتيجتها السياسية لصالح «حزب الله» وحلفائه مع الاستدارة الحادة للزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
الملاحظة الثانية أن نصر الله استهدف في كلمته، الاثنين الفائت، ولو بشكل مموه مؤسستين لا تزالان إلى حد ما خارج سطوة الحزب هما القضاء والجيش.
الملاحظة الثالثة هي أن الحزب يحاول الإفادة القصوى من الخلاف المسيحي - المسيحي وأكثر من عبر عنه خطاب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في ذكرى 13 أكتوبر، الذي نبش فيه أحداثاً أليمة في الوجدان اللبناني بعامة والمسيحي بخاصة. ولم يتوانَ الزعيم المسيحي الآخر سليمان فرنجية عن التضامن مع «حزب الله» بشأن أحداث 14 أكتوبر.
أما الملاحظة الرابعة فهي احتمال أن يكون الحزب يستشعر الوهن الذي أصاب حليفه التيار الوطني بعامة وبخاصة رئيس الجمهورية وصهره باسيل، وبات يفكر في حلفاء مسيحيين آخرين محتملين لوراثة العونيين، مراهناً على فائض قوته وعلى أن القوى السياسية في لبنان باتت بمعظمها تسلم بسطوته وتكيفت معها وهي تعمل على تعزيز مواقعها تحت مظلته.
والملاحظة الخامسة مزدوجة؛ فمن جهة أعادت حادثة 14 أكتوبر الدموية التماسك إلى الثنائي الشيعي بعد انطباعات لدى الكثيرين عن تمايز بين الطرفين وبرودة لدى الرئيس نبيه بري وحركة «أمل» حول أكثر من ملف، ومن جهة ثانية، ضخّت دماً جديداً في شعبية القوات اللبنانية ومناصريها، لكنه دم مسموم لأنه لا يغير في ميزان القوة في الداخل اللبناني وقد يؤدي إلى انتفاخ وتورم تداعيتهما في الغالب غير حميدة. إنما في الحالتين الشيعية والمسيحية، التداعيات الحاصلة ليست في مصلحة البلاد، خاصة ليست في صالح المسيحيين لا سيما وسط مواقف قيادات المسلمين السنة المترددة والرمادية وموقف وليد جنبلاط الذي يميل في النهاية إلى مناصرة الرئيس بري ورد جمائله.
هذا في الداخل، أما العبر المستقاة من مواقف الخارج لعل عنوانها الرئيسي مآلات المبادرة الفرنسية وضبابية زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند، وآموس هوكستين، كبير مستشاري أمن الطاقة الأميركي، إضافة إلى ما يجري في العراق من ردود فعل رافضة لنتائج الانتخابات التي قصقصت جوانح حلفاء إيران وميليشياتها، والإصرار الحوثي على الاستيلاء على مأرب والتنكيل بأهلها، ما من شأنه خفض منسوب التفاؤل من تسويات محتملة مع إيران في الإقليم. وعليه، يصعب تصور حجم خيبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وفريق المستشارين بالشأن اللبناني جراء ما حققته مبادرته منذ زيارته لبنان إبان تفجير المرفأ. فبعد أقل من 15 شهراً على هذه الزيارة تفاقمت الأوضاع حتى وصلت إلى حد التهديد بحرب أهلية، لا سيما من الجهة التي حاول مد الجسور معها ومع راعيها الإيراني ما دفعه إلى تبني ومباركة تشكيل حكومة تناقض شكلاً ومضموناً مبادرته الشهيرة.
أما السيدة نولاند التي زارت من ضمن جولتها على الرؤساء الثلاثة، الرئيس بري في الوقت الذي كانت فيه حركته وحليفها «حزب الله» يجتاحان بعض الأحياء المسيحية ويقومان بعراضات مسلحة مع صيحات فتنوية، لم تخرج في تصريحها إبان مغادرتها عن الموقف الأميركي التقليدي، وكأنها في زيارة لبروكسل أو استوكهولم وهي على بعد أمتار قليلة من حادث دموي كاد يغرق البلاد في نزاع مسلح خطير.
أما السيد هوكستين الخبير المحنك والعارف بخفايا ما يجري ويحاك من الأطراف كافة في موضوع النفط والغاز والحدود البحرية، فهو يستكمل مهمته في التفاوض والتوسط مع حكومة يعرف أين مصدر قراراتها وحدود قدرتها على القرار وتنفيذه. هذا إذا سمحت بلاده للبنان بالإفادة من ثروته الغازية والنفطية طالما هو تحت سيطرة «حزب الله» الخاضع لعقوباتها.
وإن كان لا بد من تعزية، تبقى الإيجابية الوحيدة لحادثة 14 أكتوبر أنها قد تصوب بوصلة الأطراف كافة في الداخل والخارج على لبّ المشكلة في لبنان، لا سيما أولئك الذين يصدقون أن الإصلاح ومكافحة الفساد والمساعدات الاقتصادية هي الحل السحري. فلا حلول ولا إصلاحات ولا دولة من دون تسوية معضلة اسمها دور «حزب الله» وإيران في لبنان، وهي مهمة بقدر ما هي لبنانية داخلية هي عربية ودولية، ودونها نكون نمعن في نحر ما تبقى من هذا الوطن.