تتراوح أسعار نفط خام برنت، منذ ابتداء حرب غزة منذ شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حتى الآن، في نطاق ضيق ما بين 75 و83 دولاراً للبرميل، حيث تتذبذب الأسعار نحو 1 - 2 في المائة بين يوم وآخر، مما يضعها في حال من الاستقرار السعري.
تغيرت أهمية الأسواق البترولية منذ العقد الأخير للقرن العشرين. فقد أصبحت الصين والهند، ومعهما بقية أسواق الدول الآسيوية الصناعية، بالذات اليابان، الأهم عالمياً، وفاقت بذلك أسواق كلٍّ من الولايات المتحدة وأوروبا التي شكّلت سابقاً أهم الأسواق البترولية.
فقد أصبحت الولايات المتحدة، منذ فترة أعوام 2014 - 2016 واحدة من الدول النفطية المنتجة الكبرى، إلى جانب السعودية وروسيا. فقد تحولت الولايات المتحدة من دولة مستوردة للنفط إلى دولة مصدِّرة له، بسبب بدء الإنتاج التجاري الأميركي الضخم منذ عام 2014 للبترول الصخري (النفط والغاز). ومن ثم تغيرت الولايات المتحدة إلى دولة بترولية مصدِّرة، بدلاً من كونها مستوردة للبترول.
أما بالنسبة إلى الأقطار الأوروبية، فقد طرأ تغييران طاقويان مهمان على الساحة الأوروبية مؤخراً، إذ تخلّت الأقطار الأوروبية النفط والغاز الروسيين اللذين كانت تستوردهما منذ منتصف عقد الثمانينات عبر الأنابيب الطويلة الممتدة من حقول سيبيريا، بسبب الحظر الذي فرضته على البترول الروسي بُعيد اندلاع حرب أوكرانيا قبل عامين، وبدأت تعتمد على الصادرات النفطية والغازية من دول أخرى، وبالتحديد الولايات المتحدة وشمال وغرب وشرق أفريقيا.
وبدأ منذ أواخر القرن العشرين الانكماش التدريجي لاستهلاك البترول في أوروبا بسبب زيادة استعمال الطاقات المستدامة والبديلة وترشيد الاستهلاك، الأمر الذي قلّص حجم السوق البترولية الأوروبية.
من ثم، نجد أن الصادرات النفطية الخليجية بدأت تتوجه منذ عقد التسعينات أكثر وأكثر شرقاً إلى أسواق الدول الآسيوية الصناعية، لتشكل نحو 60 - 70 في المائة من مجمل الصادرات النفطية الخليجية.
ومما زاد من أهمية الأسواق الآسيوية أيضاً شراكة شركات النفط الوطنية الخليجية مع الشركات الآسيوية في تشييد مصانع التكرير والبتروكيماويات في الدول الآسيوية لخدمة السوق المحلية والإقليمية، مما أضاف استراتيجياً لأهمية التصدير شرقاً لنفوط الخليج.
وقد تأثرت أسعار النفط سلباً منذ الفصل الرابع لعام 2023 بتباطؤ نمو الاقتصاد الصيني، بسبب الركود النسبي لقطاعي التشييد والسكن، اللذين يُعدّان من أهم القطاعات الاقتصادية في البلاد. من ثم بدأت الأسواق تأخذ بنظر الوقت إلى عاملين مهمين في التجارة النفطية: انخفاض الاستهلاك الصيني، بالإضافة إلى الركود الاستهلاكي في اليابان –الأمر الذي ضغط سلباً على زيادة الأسعار من جهة، وإلى حروب الشرق الأوسط التي لم تُلحق أضراراً في قطاع الإنتاج (سوى نسف خطوط أنابيب الغاز المحلية في إيران) من جهة أخرى.
بالنسبة إلى الإمدادات وعامل العرض النفطي، أدت الهجمات البحرية للحوثيين في مضيق باب المندب إلى تقليص حجم الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس، واستبداله الطريق عبر شرق وجنوب وغرب أفريقيا به، مما يزيد من تكاليف السفر والتأمين؛ إذ يصل البترول إلى موانئ الدول المستهلكة متأخراً نحو أسبوعين عن الزمن المحدد له سابقاً. ورغم هذا التأخير، لم نسمع عن شح في الإمدادات البترولية أو أخبار وصور طوابير السيارات على محطات تعبئة البنزين.
لكن الذي حدث هي زيادة ملحوظة عالمياً في ارتفاع معدلات التضخم للمواد الغذائية والاستهلاكية في عدد من الدول، الأمر الذي حذّرت منه المؤسسات الاقتصادية الدولية. فبالنسبة إلى البترول، تمكنت الشركات من تعويض الصادرات النفطية المتأخرة من مخزونها التجاري ثم إعادة النقص في المخزون لاحقاً دون التأثير في إمدادات الأسواق نفسها.
من الواضح أن الأوضاع لا تزال غامضة ومقلقة، أكانت في الممرات البحرية الدولية من جهة، وغزة والضفة الغربية وشرقي القدس من جهة أخرى، حيث المطالب الملحة لمنح حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وتأسيس دولة فلسطينية مستقلة. لكنّ، حل الدولتين هذا، الذي حصل على مساندة واشنطن اللفظية له خلال الأسابيع الأولى لمعركة غزة، بدأ يتراجع ويعد «خيالاً» في كبرى وسائل الإعلام الأميركي مؤخراً، هذا بالإضافة إلى معارضة قوى اليمين الإسرائيلي المتطرف في حكومة نتنياهو، وهو شخصياً، ومؤخراً «الكنيست»، لاقتراح الدولتين. ومما زاد من خيبة الأمل بحل الدولتين تصويت «الفيتو» الأميركي ضد مشروع قرار الجزائر في مجلس الأمن، الأسبوع الماضي، لإعلان وقف إطلاق النار في غزة.
ومن دون أي أفق لحلول سياسية لصراع القرن العشرين هذا، بمنح حق تقرير المصير وتأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة، وفي ظل التوازن الاستراتيجي الإقليمي، ومحاولات إيران التوسعية الإقليمية، فإن حرب الاستنزاف المستمرة سيطول مداها، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار بعض التحديات المقبلة: رفض مبدأ الدولة الفلسطينية، وتهجير ونكبة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومحاولة إلغاء وكالة «أونروا»، والاضطهاد المستمر في الضفة الغربية، والحقد الصهيوني على الشعب الفلسطيني المتمثل في النكبة الجديدة وإلغاء الصلاة في المسجد الأقصى في القدس الشرقية خلال شهر رمضان المقبل، الأمر الذي سيثير الاضطرابات في القدس الشرقية. وفي مجال آخر، تبقى المناوشات العسكرية في كلٍّ من لبنان والعراق وسوريا.