لايصح تأريخ التحولات السياسية على الساحة اللبنانية خلال النصف الثاني من القرن الماضي من دون التوقف ملياً أمام انتفاضة السادس من شباط من العام 1984. ذلك أن هذه الإنتفاضة الشعبية لم تكن حدثاً مطلبياً تقليدياً تنتهي مفاعيله بمجرد إطلاق الوعود بتحقيق المطالب المرجوة، بل كانت فعلاً سياسياً عفوياً مكتمل الشروط أعاد صياغة التوازنات الداخلية كما الإقليمية والدولية إنطلاقاً من لبنان.
وقبل التبحر في البحث حول ارتدادات إنتفاضة السادس من شباط 1984، لا بد من التأسيس بدءاً من اختطاف الإمام السيد موسى الصدر في ليبيا العام 1978، هذا الإختطاف الذي جهدت أقلام وتحليلات كثيرة في تفسير أهداف المنظومة التي تجرأت على النيل من قامة إستثنائية بهذا الحجم والدور. إلا أن الثابت أن الهدف المباشر تمثل بمحاولة إطفاء شعلة الإنتماء لدى اللبنانيين من أبناء الطائفة الإسلامية الشيعية، الشعلة التي استعادت جزءاً كبيراً من أبناء الطائفة من أحزاب وتنظيمات الحركة الوطنية والثورة الفلسطينية آنذاك، والتي شكلت المنطلق الأول لإنشاء مقاومة لبنانية صرفة ضد العدو الإسرائيلي في خطوة إستباقية كان لها الأثر الأبرز في مقارعة المحتل الإسرائيلي لاحقاً قبيل أشهر قليلة من جريمة اختطاف الإمام.
ربما لو كان يعلم الخاطف ومنظومته أن جريمتهم تلك ستوقد الحماس والقوة والتحدي لدى معظم أبناء الطائفة الشيعية الذين انضووا تحت لواء حركة المحرومين - أمل لما فعل. ومن كان معايشاً لتلك الفترة من الإندفاع الشيعي - الحركي يعرف أن تنظيم الحركة على الأرض كان قيادة متحركة يتجاوز بقراراته المناطقية توجهات الأمانة العامة للحركة آنذاك، وقد برز ذلك في أكثر من محطة عسكرية، خصوصاً في مرحلة الإشتباكات المسلحة مع بعض تنظيمات الحركة الوطنية وقوى جبهة الرفض الفلسطينية وحتى مع حركة فتح التي كانت تعتبر نفسها شريكاً مؤسساً في صناعة التدريبات الأولى لأفواج المقاومة اللبنانية - أمل.
الإنتفاضة الشعبية لم تكن حدثاً مطلبياً تقليدياً
كانت الحركة ومعها الشيعة أمام تحدٍ كبير وخطير، فهذه القوى والتنظيمات التي اعتبرت الإمام الصدر خصماً منذ اللحظة الأولى لتحركه، إعتقدت أن إمكانية الإنقضاض على الحركة وإنهائها صارت مؤاتية باعتبار أن النفوذ الفلسطيني العسكري والسياسي على مساحة إنتشار الشيعة على الأراضي اللبنانية لن يقبل بإعادة إنتاج مشروع الإمام المؤسس خصوصاً في الجنوب، أي بمعنى آخر لن يسمح لأي طرف لبناني أو غير لبناني أن يمسك بورقة المواجهة ضد العدو الإسرائيلي.
مرت الحركة في تلك الفترة بمعمودية دم ونار استطاعت من خلالها فرض سيطرتها على مساحات كبيرة من مناطق إنتشار الشيعة وفي مفاصل حساسة كمنطقة الأوزاعي التي كان قد أطلق عليها الرئيس ياسر عرفات (أبو عمار) آنذاك تسمية "عنق الزجاجة"، هذه السيطرة التي ستتوسع لاحقاً مع دخول القيادة السورية على خط الرعاية التدريبية والتسليحية المباشرة لهذه الصحوة الشيعية بعدما كان قد شارك في وضع لبِنات تأسيسها الأولى من خلال العلاقة المميزة التي ربطت الإمام الصدر بالرئيس الراحل حافظ الأسد. وما زلت أذكر إحتفال شباب الحركة وبهجتهم بعد تسلمهم شحنات جديدة من رشاشات "كلاشنيكوف - باكالايت" ذات المخزن البرتقالي، بالتزامن مع إنضمام الكثيرين منهم الى الدورات التدريبية في الثكنات والمخيمات العسكرية للوحدات الخاصة السورية.
إستمرت هذه الحال من الإشتباكات بين الحركة وأخصامها لأكثر من أربع سنوات متواصلة حتى حصول الإجتياح الإسرائيلي الأوسع العام 1982، والذي كان مدخلاً لمصالحات سياسية - ميدانية فرضتها أولوية المواجهة مع العدو المحتل، خصوصاً وأن اندفاعة هذا العدو تجاوزت العملية المحدودة جغرافياً وعسكرياً التي كان يروج لها، بحيث بدأت تتكشف الأهداف الكامنة المتمثلة بعدم الإكتفاء بإخراج الثورة الفلسطينية من لبنان والإنتقال الى فرض انتداب دولي مباشر تمثل بانتشار قوات متعددة الجنسيات على أرضه لإحداث تغيير جذري في موقع لبنان ودوره، إضافة الى ضرب التوازنات الداخلية اللبنانية من خلال الضغط لانتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية قبيل بدء الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية.
خرج الفلسطينيون، ليبقى لاعب إقليمي أساسي على تخوم بيروت وهو السوري ولتُفتح الأبواب أمام انضمام لاعب إقليمي آخر الى ساحة المواجهة وهو الإيراني، الذي استفاد من حالة التخبط التي عاشها لبنان ليؤسس منظومة عسكرية - أمنية عقائدية متينة مستفيداً من إنكفاء القوى التي كانت سائدة قبل الإجتياح في البقاع خاصة ومن ضمنها حركة أمل.
راهن رئيس مجلس قيادة حركة أمل العائد من الولايات المتحدة الأميركية حديثاً والذي تم التوافق عليه في المؤتمر العام الذي عُقِد في ربيع العام 1980 في مدينة الزهراء-خلدة (الجامعة الإسلامية حالياً) نبيه بري، على إمكانية إعتراف النظام اللبناني المتجدد برئاسة أمين الجميل بالتحولات الجذرية في المزاج الشيعي، هذه التحولات التي منحت الحركة موقع القيادة لهذه الشريحة من اللبنانيين، خصوصاً بعدما كان قد أبدى مرونة في مقاربته للشأن الوطني الداخلي من خلال مشاركته قبل ذلك في اجتماع ما سُمي "هيئة الإنقاذ" في قصر بعبدا بحضور بشير الجميل، على الرغم من بعض التحفظات من قبل قيادات زمنية وروحية شيعية.
لكن الرئاسة التي كانت بيدها وحدها مقاليد الحكم، إرتكبت الخطأ التقليدي نفسه وهو العمل على إقصاء شريحة لبنانية أساسية لم تكن قد إكتملت شروط صحوتها السياسية واندماجها الفعلي بمشروع الدولة. بل إن الرئيس أمين الجميل إعتقد حينها أنه بإمكانه إجبار ليس الشيعة فحسب بل الدروز والكثير من السُنة المعارضين له أمثال الراحل الكبير رشيد كرامي على الإذعان بالقوة لسلطته التي لم تتجاوز فعلياً المربع بين القصر الجمهوري ووزارة الدفاع. وكان يراهن الجميل أيضاً على قوة الحضور العسكري الأميركي الفوقي الذي أغرقه بوعود مستحيلة التنفيذ. فكانت غلطته الأولى تعمد قصف ضاحية بيروت الجنوبية بعنف ودموية وكان الرد سريعاً إنتفاضة عفوية في الثامن والعشرين من شهر آب العام 1983 أخرجت جيشه وبعض محازبيه من الكتائب والقوات من كافة مناطقها، وللأسف خروج معظم المسيحيين من أهلها معهم.
إن الأهمية التي إكتسبتها إنتفاضة الضاحية تكمن في أنها مهدت لولادة إنتفاضة بيروت من جهة، وكونها فتحت ممراً للتواصل مع الشوف وعاليه من جهة أخرى ومن خلال هذا الممر عودة النشاط الى طريق التسليح السوري لقطبي المواجهة مع سلطة الجميل الحزب التقدمي الإشتراكي وحركة أمل.
كان مقدراً أن تسقط سلطة الجميل سريعاً في بيروت، على الرغم من غياب أية تحضيرات سياسية فعلية لتنفيذ هذا الإنقلاب، ولولا وجود بعض السلاح الذي كان قد تم تهريبه من الضاحية والجبل الى بيروت لكان الإنقلاب قد حصل سلمياً بقوة الإلتفاف الشعبي حول مجموعة من شباب الحركة قرروا مواجهة الجيش اللبناني في مدرسة "الأليانس"، المدرسة التي هُجروا إليها خلال مراحل الحرب الأهلية.
خطيئة رئاسية في التقدير، رافقتها هزيمة موصوفة للمشروع الأميركي ووهن إسرائيلي أمام ضربات المقاومة المتنقلة والحاسمة، جعل من إنتفاضة السادس من شباط منعطفاً إستراتيجياً أخرج لبنان من العصر الإسرائيلي، من دون أن تكتمل شروط استعادته لوحدته المفترضة من باب المشاركة في السلطة.
بالطبع قد يصعب تخيل المشهد لدى كثيرين اليوم حول مقارعة حركة أمل لسلطة الظلم والفساد آنذاك نسبة الى ما عانوه لاحقاً نتيجة الأداء السياسي والتشريعي والإداري لبعض من مثّل ويمثل الحركة، خصوصاً بعدما إكتسب الشيعة حقهم بالشراكة الوطنية بالتضحية والبذل والمقاومة. لكنه واقع صار يستوجب فتح النقاش البناء والمسؤول حول موقع الشيعة المفترض في الحياة السياسية، هل ما زالوا محرومين؟ أم أصبح بعضهم حارماً؟ هل ما زالوا متحفزين للإنتفاض ضد الظالمين والفاسدين؟ أم أنهم إكتفوا بسطوة بعضهم على مغانم السلطة ومقدراتها وبما وصلهم من الفتات؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير تتزاحم في لحظة انهيار سياسي وإقتصادي ومالي ومعيشي يرخي بتداعياته المؤلمة على اللبنانيين كافة.
توصيف الوقائع التاريخية ضروري لفهم المنطلقات التي ما زال بعضها يتحكم بجزءٍ من المزاج الشعبي الشيعي، لكن التغني بأمجاد الماضي لم يعد مفيداً خصوصاً بعد قطع الصلة مع هذا الماضي والخروج عن سياقه "الصدري" الذي كان من المفترض أن يجعل من الشيعة اللبنانيين رواد مشروع الدولة ورافعته.
ولا يمكن أن يستعاد الوصل مع هذا السياق قبل العودة الى منظومة القيم والأفكار والطروحات التي أرساها الإمام المؤسس الصدر في حركة أمل أولاً، وهي مسؤولية يجب أن يتصدى لها رئيس الحركة نبيه بري قبل فوات الأوان إن لم يكن قد فات فعلاً، في ظل التناتش المسبق على التَرِكة والبحث في التوريث المستحيل. لذلك لم تعد الخيارات متعددة: إما إعادة صياغة مشروع الحركة وتنظيمها وفقاً لميثاقها وطروحاتها الأولى أم البحث في صناعة مسار تنظيمي موازٍ يحمل عناوين هذا الميثاق وتلك الطروحات "الصدرية"، التي إنطلقت منها إنتفاضة المحرومين في أكثر من محطة سياسية ووطنية.