بقلم - يوسف الديني
انسداد الحالة السياسية في المنطقة، أدَّى إلى ظهور طبقة جديدة من تجار الأزمات وحالة اللااستقرار، من الذين ترتفع حناجرهم ضد القرارات السيادية لدول الخليج، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، التي تهدف إلى إعادة موضعة مسألة الأمن القومي والإقليمي للمنطقة، فوق اعتبارات الدبلوماسية الناعمة التي ساهمت في وقت مضى إلى تفاقم استغلال الحياد والنأي بالنفس عن الصراعات السياسية الداخلية، مع الاكتفاء بالتدخل الإيجابي والدعم اللامحدود، كما هو الحال مع مواقف السعودية في الأزمة اللبنانية منذ الحرب الأهلية التي لم يتجاوز هذا البلد المكبّل بنزاعاته مناخها.
وكان تصنيف «حزب الله» منظمة إرهابية، القرارَ الشجاع والاستراتيجية الاستباقية التي اتخذتها السعودية منذ سنوات لحظة فاصلة، لإعادة النظر في الحياد الدبلوماسي الذي بات مع تدخل الحزب في أمن المنطقة من العبث في سوريا، وصولاً إلى تدريب ميليشيا الحوثيين في اليمن؛ مما جعله ينتقل إلى ذراع أزمات دولية لملالي طهران، بعد أن نجح في انسداد الحالة السياسية في لبنان من خلال التحوّل إلى دولة داخل الدولة.
الانتفاضات الشعبية ضد هيمنة الحزب وإصراره على تدمير ما تبقى من لبنان، نقل مسار الحديث من تجاوزات «حزب الله» السياسية داخل لبنان من تعطيل الحكومة إلى الاستحواذ على الشارع، بل الحديث عن مواجهة مباشرة واستهداف أمن اللبنانيين أنفسهم.
لم يعد خافياً تقاطر التقارير الدولية التي توثق إلى استراتيجية «حزب الله» في إيذاء الذات ولبنان عبر مشاريع بناء موقع إنتاج الصواريخ في الأحياء الحضرية، التي تضجّ بالسكان في سعي محموم من الحزب على تطوير أنواع جديدة من الصواريخ، وتوسيع نطاق مخزونه منها من دون أي اكتراث بتعريض حياة الملايين من اللبنانيين إلى الخطر، إضافة إلى تحوله حجر عثرة أمام ثقة الاقتصاد الدولي، ممثلاً في الشركات المالية الكبرى يتقدمها صندوق النقد الدولي بمدّ يد العون مجدداً، كما هو الحال مع صعوبة عودة ثقة القطاع العريض المفتنون بجمال هذا البلد للعودة مجدداً إليه، عبر السياحة التي تعد أحد الشرايين الحيوية.
استخدام اللبنانيين دروعاً بشرية لم يعد كشفاً جديداً، فهو بحسب ورقة بحثية لمعهد واشنطن للسياسات أمر موثق ومعروف، ولا يمثل الكشف عن منشآت الإنتاج داخل أحياء بيروت مفاجئة صادمة، حيث اعتاد الحزب على بناء البنى التحتية العسكرية له بالقرب من المدنيين، محولاً أرواحهم دروعاً بشرية لمشروعه الآيديولوجي المضاد للحياة.
ما يحدث الآن هو حالة انكشاف كبيرة لمسلسل امتد لسنوات منذ نهاية حرب يوليو (تموز) 2017 سعى فيها الحزب إلى تكثيف اتخاذ الأحياء المدنية دروعاً بشرية عبر بناء مصانع حربية وإنتاج مكثف لصواريخ فاتح 110 في سعي إلى استرداد النصر «الإلهي» على حساب جثث اللبنانيين وأرواحهم، وفي ظل تلكؤ من الانتهازية السياسية لدى بعض النخب التي تخشى المواجهة مع الحزب، تحسباً لأي انفجار في المنطقة يضعها أمام مواجهة مباشرة محتملة ضد الأذرع الإيرانية التي حرصت طهران على تفعيلها وتنشيطها للقيام بأدوار انتحارية بالوكالة، على حساب مصائر وشعوب بلدانها.
الأكيد أن «حزب الله» يواجه أصعب أوقاته الآن، لا سيما بعد حالة اليقظة التي تتعاظم في وعي اللبنانيين بالأزمة، رغم كلفتها العالية بعد حادثة الميناء، صحيح أن التعويل على أدوار سياسية وتحولات ضخمة لا يبدو واقعياً، لكن القطيعة مع القداسة المصطنعة وشعارات المقاومة، بعد أن باتت رصاصات وشظايا تطال اللبنانيين، بداية طريق طويلة من الوعي وفضح مشروع القنابل المفخخة داخل الجسد اللبناني، ولو حاول بعض الانتهازيين تمريرها أو التغطية عليها، في النهاية توالي الضغوطات على الحزب يؤذن مع مرور الوقت إلى تحولات داخلية، كما هو الحال في منطق السياسة من الانشقاقات الداخلية إلى استنزاف الكوادر والموارد والتضييق على التحويلات المالية والتجارة غير المشروعة للحزب، في أنحاء واسعة من العالم، والتي يديرها الجناح المتشدد داخل الحزب، الذي يعرف باسم «حركة الجهاد الإسلامي»، وينشط هذا الجناح في عمليات غير مشروعة في أميركا الجنوبية وقارة أفريقيا.
استهداف حياة اللبنانيين من شأنه نقل موضعته في مخيال اللبنانيين السياسي من طرف سياسي ينافس على اقتطاع السلطة، إلى مهدد أمني للداخل اللبناني والقبض على كل مفاصل الدولة، لا سيما مع بقاء أمنيات الحزب بتخفيف الضغط على العقوبات الإيرانية، في ظل حالة التلكؤ والسجال لدى بعض القوى الغربية في النظر إلى إيران بمنطق الدولة، لا كمشروع آيديولوجي للهيمنة وتصدير الثورة ورعاية الإرهاب والمعارضات المسلحة.
على مستوى المؤسسات الدولية والقوى الغربية الكبرى، لا يمكن أن يتمَّ علاج العرض من دون المرض كما يقال، فالتبني غير الشرعي للإرهاب والعنف من قبل نظام طهران، ودعمه مشاريع تطوير الصواريخ التي يقوم بها «حزب الله»، هو انتهاك لكل الأعراف والقوانين الدولية بشكل مباشر، ومنها قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي ينص على منع التسليح من دون إذن الحكومة، وهو ما سيشكل في حال استمرار الحزب في استهداف اللبنانيين وتحويلهم إلى دروع بشرية، إلى انتقال الكثير من الدول الأوروبية من حالة التردد في تصنيف «حزب الله» منظمة إرهابية على اتخاذ القرار، باعتبار تأثيره على أمن اللبنانيين وسلامتهم أولاً وأخيراً، بعيداً عن مماحكات وألاعيب السياسة ونداءات المصالح الاقتصادية، التي تبعث عنقاء الأزمات في المنطقة مرة بعد مرة.