بقلم - يوسف الديني
سقطت أقنعة كثيرة مع هذه الحرب الوحشية، التي تصرّ إسرائيل على المضيّ فيها قدماً ضد العالم تقريباً، من بينه مجتمعات غربية باتت تضغط بقوة على إداراتها السياسية لوقف هذه المجزرة ضد المدنيين والأطفال، حتى إدانة مغامرة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 أصبحت سطراً في مانفيستو دولي عريض ضد الانتهاكات التي باتت تهدد سلم القيم والقناعات المشتركة والثقافة الإنسانوية التي تضررت في حدها الأدنى المجمع عليه من سيادة القانون إلى حقوق المدنيين العزل إلى نقد سياسات التجويع والعزل القسري.
فشل العالم اليوم في اتخاذ موقف جاد يؤدي إلى توقف الحرب، وبات منشغلاً بأطروحات موازية تتصل بما أطلق عليه «اليوم التالي»، وهو ما يستوجب إعادة النظر، ليس فقط في مسألة اليوم الحالي، وضرورة توقف نزيف الدم، وإنما في مفارقات الأزمة، وأهمها «الأرض»، لا سيما مع رمزية مؤلمة وقاسية على مرآى ومسمع من ضمير العالم الذي يعيش في أحد أكبر مآزقه وتشظياته، وهو مأزق «الإنزال» للمساعدات.
هذه الرمزية تعني شيئاً واحداً، وهو ضرورة العودة إلى الأساسيات «الأرض» التراب الذي يمتلك الفلسطينيون، وهنا بعيداً عن تشكلاتهم السياسية حقاً لا يمكن التنازل عنها، وكل حديث في تسويق أن كيان إسرائيل الذي يعيش انقساماً كبيراً حتى على تجربة مفهوم الدولة على أنها التجربة الوحيدة الديمقراطية في الشرق الأوسط ليس إلا إدانة للنموذج، ليس على مستوى التلقي العربي، بل حتى دول العالم، خصوصاً تلك التي عانت من ويلات الاستعمار وخطابه، وفي تجربة الكيان الإسرائيلي مع مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر، يرى المراقبون الغربيون فيما تطرحه مراكز الأبحاث وخزانات التفكير تحولاً إلى الابتعاد عن تجربة الدولة وصعود الخطاب المتطرف اليميني لأسباب دينية وثقافية تستحضر الهولوكوست النازي وما يتبعه من عقدة الذنب، الذي يجب أن لا تحمل الدول المترددة على إدانة ما يجري اليوم من إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني والمدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ على وجه الخصوص.
صعود خطاب العنصرية والتمييز ومشاعر الإسلاموفوبيا وما يقابلها من التحشيد ضد الغرب والولايات المتحدة سيصنع أجيالاً قابلة للاستقطاب للتطرف، وسيستهدف المجتمعات الغربية قبل غيرها، خصوصاً مع انعكاس ذلك على الأجيال الجديدة من أحفاد المهاجرين الأوائل أو سياسات الحد من الهجرة على أساس اللغة أو الدين أو العرقية.
البنية الإسرائيلية اليوم منقسمة بشكل كبير، هذا صحيح، لكن الخطاب السائد المعادي للوجود الفلسطيني والمتموضع على انتزاع الأرض والتوسع الاستيطاني وإنكار الحق الفلسطيني على ترابه يتجاوز مسألة نقد نتنياهو الذي يصدر بلغة مهادنة وعلى استحياء، فخطاب السلطة اليوم من سموتريتش وبن غفير هو خطاب عنصري معلن ولا يمكن معه التفكير في أي حلول تفضي إلى تغيير لما يجري على «الأرض» الذي هي لب المعضلة الأساسية.
الصورة النمطية عن الصراع تغيرت ولا يمكن للسردية الإسرائيلية أو الغربية المبررة لها أن تكون مقبولة مع تضخم منسوب العنف والقتل والمجاعة، ولا يمكن للعقلاء في العالم مواصلة الادعاء بأن ما يحدث دفاع عن النفس بعد تدمير غزة أرضاً وشعباً وتحويلها إلى منطقة يباب غير قابلة لأدنى شروط العيش.
وبسبب هذه التحولات الهائلة التي أفرزها سلوك الكيان الإسرائيلي على الأرض أصبح الحديث عن معاداة السامية في الأوساط الغربية أقل فاعلية وجدوى، لا سيما في بلدان توصف بأنها الضفة الأخرى من جنوب العالم، وذلك لأنها منزوعة عنهم، وعن سياقها الغربي المعقد، وبسبب هشاشتها أمام آلة الوحشية التي ساهمت الصورة والصوت والتقارير اليومية في دحضها حتى داخل أوساط النخب الغربية.
الخوف اليوم من استغلال المتطرفين أصحاب المشاريع التقويضية للقيم الأساسية، أي التعايش المشترك والسلم المجتمعي والازدهار في المنطقة، سواء كانوا دولاً أو جماعات أو أحزاب معارضة ونخباً مؤدلجة، واستغلال حالة العدمية والصمت تجاه ما يحدث.
المخرج اليوم هو تحرّك جاد للبناء على المواقف القليلة العملية والعاقلة رغم الألم، التي تقوم بها دول الاعتدال، في مقدمها السعودية، لإيصال تشخيص دقيق وحقيقي، وكان آخرها بيان وزارة الخارجية حول استهداف المدنيين في شمال القطاع في مجزرة مروعة ودموية، الذي كررت فيه موقفها الثابت، وهو ضرورة اتخاذ موقف حازم مبني على احترام القانون الدولي الإنساني وفتح الممرات الإنسانية الآمنة وإجلاء المصابين وإيصال المساعدات من دون قيود، ووقف فوري لإطلاق النار للحيلولة دون سقوط الضحايا الأبرياء... وهي مطالب ببساطة متصلة بالأرض وعلى الأرض لا تتطلب إنزالاً ولا استنباتاً.