ترجمة عنوان الفيلم تعنى بقاء اللطف أو العطف أو الشفقة، واختار المخرج الأسترالى روف دوهر أن يكتب العنوان بأكثر من لغة وبينها العربية واختار من المفردات الثلاث العربية (اللطف).
يطرح الأدب العالمى أنماطا متعددة من الممكن أن تجد لها صدى وتنويعة على نفس (التيمة) فى السينما، خاصة عندما يساهم هذا النوع الأدبى فى عناق شرعى ومنطقى بل وحتمى مع السينما التى ترنو دائما لكى تكتشف نفسها فى ملامحها المختلفة (فن سابع).
المخرج فى أفلامه السابقة ينطلق بالسينما إلى عمق السينما. إنها السينما الخالصة لغة خاصة جدا تتجاوز الحوار المنطوق، لغة الصورة التى دأبنا على استخدامها (السينما صورة)، لا يمكن أيضا أن تصبح تلك الجملة مفتاحا شاملا مانعا لمعنى السينما، والتى يطلقون عليها السينما الخالصة، إنها أعمق من كونها مجرد صورة، الفيلم الذى يمثل أستراليا يحاول أن يقترب فاتحا كل الأبواب فى قراءة الشريط السينمائى، هل ما نراهم أمامنا من سلالة سكان أستراليا الأصليين، ومأساتهم تشبه الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين؟.
اللازمان واللامكان يسمح للمتلقى بأن يزداد إيجابية فى التفسير وقبل ذلك القراءة.
الأحداث فى صحراء، السكان هربوا، الأغلبية ربما انتهت علاقتها بالحياة، تبدأ الأحداث بالبطلة السوداء فى عربة حديدية غير قادرة على مغادرتها، يحركها الرغبة فى الحياة، وتبدأ فى الصراخ، لا أحد يسمع، تستخدم مفتاحا قديما ملقى على الأرض فى محاولة لتحطيم القيد، وتنجح فى النهاية، المخرج رولف دوهر يقدم بالتوازى لكل ذلك النمل الوحشى فى صراعه مع بعضه البعض (بعضه يمزق بعضه) حرفيا، وكأنها حرب أهلية البقاء فيها للأقوى، وكيف ينتهى بمقتل واحدة وبقاء أخرى، لا توجد دوافع مباشرة ولا حتى صراع على قضمة طعام، ولكن هى الرغبة الدفينة بقتل الآخر ولا تحتاج إلى مؤثر خارجى، يمارسها الحشرات وأيضا البشر.
تلاحظ أن البطلة سيدة سوداء تؤدى دورها باقتدار، موجيمى حسين تسعى لإخفاء وجهها، لنكتشف أن كل الأبواب مفتوحة للتفسير، فهى ربما حرب عنصرية أو طائفية، تستمع أحيانا إلى كلمات بلغة غير مفهومة حتى الشخصيات عندما تتبادل حوارا قليلا فيما بينها لا يتم استيعابه، وبذكاء من المخرج لم يترجم الحوار، لأن أبطاله على الشاشة أيضا لا يدركون دلالة الكلمة، وأنت كمشاهد ينبغى أيضا أن تتعامل معها باعتبارها مجرد همهمات غير مفهومة، ليظل الجميع على نفس الموجة.
فى رحلة السيدة خارج القفص الحديدى نرى رجلا يضع زوجته الراحلة بين يديه ويشير إلى لسانه دلالة على العطش، وتبدأ المقايضة، المرأة تبحث عن حذاء يمنحها الحذاء وتجد صنبور الماء تعطيه الماء، وللحذاء قصة عند تحطيمها لجدران سجنها الحديدى، تلمح جسد إنسان مدفونا، يظهر فقط من تحت التراب الحذاء فترتديه وتنزع عنه أيضا قميصه، بعدها بلحظات هناك من يهددها ليستولى على الحذاء وإلا أطلق عليها رصاص بندقيته، فتمنحه حذاءها مقابل الحياة، قانون المقايضة هو أول قانون اقتصادى فرض قواعده على الدنيا، الحذاء مقابل الحياة تنويعة أخرى ومختلفة، لكنها فى سياقها الدرامى مقبولة.
صحراء وامرأة سوداء وبقايا بشر ودمار شامل وهواء مسموم وموت يملأ المكان، ولا تدرى من يقتل من، وما هو السبب، ليسوا مصاصى دماء (زومبى)، ولكنهم لا يقلون ضراوة عنهم، من هم على قيد الحياة تحولوا إلى وحوش مفترسة يضعون الكمامة لتحميهم من فساد الهواء وهى تضع أيضا الكمامة لأسباب أخرى، لإخفاء لونها خوفا من قتلها، وفى مشهد شديد الدلالة عندما تجد يدين مقطوعتين ترتديان قفازا تأخذ القفاز لتخفى لون يديها وتحاول أيضا التحايل على لون العنق. يمزج المخرج رولف دوهر كل هذه التفاصيل بنعومة لا ترى كل شىء، لكنك تشعر بكل شىء، السيناريو لا يمكن سوى أن يرسمه عين المخرج فى رؤية ترى فيها (الديسوتوبيا) التى تعنى المدينة الفاسدة على الجانب الآخر من تعبير(اليوتوبيا) المدينة الفاضلة.
وهى تعنى رؤية تشاؤمية للحياة ترى القبح والدمار واللاجدوى فى كل التفاصيل، الكلمة استمدت ملامحها من الأدب، تعنى المكان الخبيث، الذى ينضح بالكوارث وهو نتاج الحكومات القمعية ترسم بالخيال صورة كئيبة تحاول أن تحاكى خلالها ملامح الواقع ولا تحمل أى تفاؤل فيما هو قادم وهو ما رأيناه فى المشهد الأخير، عندما توقن البطلة أن النهاية والموت فى انتظارها فتذهب إلى القفص الحديدى الذى حطمته فى البداية بيديها وتغلق الباب عليها بإحكام، تنتظر فى النهاية الموت.
الذى شاهدناه أمامنا فى كل لقطات الفيلم، إما بشر تحت التراب لا يتبقى منهم إلا جزء من ملابسهم أو آخرين فى انتظار من يضعهم تحت التراب، الحوار الوحيد المسموع بين فتاة صغيرة تلتقيها ولكن يصيبها هذا الوباء القاتل وتدرك أنها النهاية، وبحنان الأمومة تنقلها إلى النهر ونرى بثور الموت على وجهها، وتودعها وتطلب منها بحركة أصابعها أن تغمض عينيها فى انتظار الرحيل الوشيك.
الشر الكامن فى البشر، وجنون العنصرية وقمع السلطة وقانون القوة الغاشمة كلها تفاصيل، لم تكن بحاجة إلى حوار، ولكن إلى عين تدرك معنى السينما حتى العنوان كتبه بأكثر، من بينها العربية، ليؤكد المعنى أنها حكاية للعالم، تتجاوز كل حروف الأبجدية، تعاطفنا مع تلك المرأة السوداء التى قررت أن تتحدى مصيرها وعندما لم تجد أمامها سوى نفس المصير قالت بيدى لا بيد عمرو، وكأنها تدفن نفسها بيديها. الفيلم يعرض داخل القسم الرسمى بالمسابقة، وأظن أن له حظه من الجوائز التى ستعلن السبت القادم، بدأت السينما تعبر عن نفسها بعيدا عن صخب السياسة الذى سيطر فى بداية برلين على روح ومذاق المهرجان، وانتصرت السينما مع (بقاء اللطف)!!.