بقلم : طارق الشناوي
عندما يأتى اسم محمود حميدة، الذى تم تكريمه بجائزة نجمة الجونة للإنجاز، يصعد موازيًا فى خيالى اسم مجلة سينمائية لعبت دورًا حيويًا فى الحياة الفنية فى مصر والعالم العربى «الفن السابع»، استمرت بلا توقف قرابة خمس سنوات، أول مجلة يجرؤ فنان على أن يتحمل تكاليف إصدارها، لم تضبط يومًا وهى تفتح النيران على مخرج لا يرشح النجم لأفلامه، أو شركة إنتاج أخرى يرى أنها تهدد كيانه.. كان الهدف الوحيد لفريق العمل بالمجلة من نقاد وصحفيين، برئاسة تحرير الزميل الراحل «محمود الكردوسى»، أن يتم توسيع دائرة الثقافة السينمائية.. استنفدت المجلة الميزانية التى رصدها (حميدة)، واضطر إلى إغلاقها لأجل غير مسمى، واستمر غير مسمى حتى الآن، سألته يومًا لماذا أغلقت هذه النافذة؟، أجابنى أنفقت عليها كل ما كان يمكن أن أتحمله كإنسان.. شعرت بأننى أديت دورى عند هذا الحد وأرضيت ضميرى!!.
لم أعمل بالمجلة، بل كنت أسدد اشتراكًا سنويًا، حتى يصلنى العدد بانتظام، مثل كل القراء، مرة واحدة يتيمة نشرت على صفحاتها، فى أعقاب رحيل «سعاد حسنى»، واتصلت بمحمود حميدة وأرسلت له المقال، وطلبت من إدارة المجلة ألا أتقاضى أجرًا، لأننى أنا الذى طلبت النشر، احترمت التجربة، التى كانت تسفر أسبوعيًا عن هذا الإصدار الرائع.. وأسفت على توقفها وعذرت «حميدة» لأنه لجأ إلى أبغض الحلال لأى مطبوعة وهو الإغلاق!.
دائمًا ما تجد ذهن «محمود» حاضرًا أمامك بأبيات شعر يرددها نقلًا عن أبيه الروحى «فؤاد حداد»، لم يلتق «حميدة» ولا مرة (حداد) ولم يدرك قيمته إلا من خلال الكاتب الكبير الراحل «خيرى شلبى»، الذى ردد أمامه مرة، فى منتصف الثمانينيات، بعض أبيات حداد، ومنذ ذلك الحين بات «حميدة» عاشقًا متيمًا لكل أبجدية هذا الشاعر.
الإحساس الشاعرى جزء من فن أداء الممثل، دائمًا ما تلمح لدى كبار الممثلين هذا الملمس، فى الإيقاع الصوتى والحركى، وكما أن هناك شعرًا بالفصحى وزجلًا بالعامية، فأنا أرى أداء «حميدة» ينتمى أكثر إلى دنيا الزجل، لا يحسب على قبيلة «شوقى» و«حافظ» و«جبران»، ولكنه ينتمى أكثر إلى قبيلة «بيرم» و«حداد» و«جاهين»!!. فى رحلة «حميدة» مع السينما أخذ من «حداد» فلسفته فى التعايش مع الواقع، ومقاومته أيضا إذا لزم الأمر. وكالعادة الصدفة تلعب دورها عندما يعتذر «أحمد زكى» عن فيلم «فارس المدينة»، الذى كتبه «فايز غالى»، وأخرجه «محمد خان»، كان «أحمد زكى» مرشحًا للبطولة، بل ومتحمسًا للدور، ثم فجأة فتر حماسه وعبثًا حاولوا إقناعه بالعودة، رشح «خان» النجم «محمود عبد العزيز»، وبالفعل وافق «محمود» على خوض التجربة، إلا أنه اشترط التأجيل بضعة أشهر حتى ينهى ارتباطاته الفنية، بينما «خان» يريد أن يدخل الاستديو خلال أسبوع، وكان لابد من البحث عن بديل، وفجأة رشح «فايز غالى» اسم «محمود حميدة»، الذى كان قد لعب بطولة مسلسل «حارة الشرفاء»، ولم يكن «خان» قد شاهد المسلسل، لكنه طلب أن يتعرف فقط على «حميدة» وجهًا لوجه، وفى لحظة تعاقد معه على دور «فارس»، قال لى «خان» إنه لم يطلب حتى من حميدة أن يحضر معه حلقات من المسلسل، اكتفى فقط باللقاء المباشر وعلى الفور وجد فيه ملامح «فارس» التى يبحث عنها!!. الصدفة لعبت دورها لكى يقف «حميدة» لأول مرة بطلًا على الشاشة، وانتشر الخبر فى الوسط الفنى ليجد «حميدة» نفسه هدفًا مضمونًا لأفلام المقاولات، المحدودة فى قيمتها الفنية والإنتاجية، هذه الأفلام لها وجه إيجابى، حققت له التعايش السلمى مع الواقع السينمائى، وأيضًا فرصة لكى يلتقط بعض الخبرة فى صناعة الأفلام الرديئة.. نعم الفيلم الردىء يتيح لك أن تدرك شروط صناعة الفيلم الجيد.. وكما قال الشاعر «بضدها تعرف الأشياء»، المشاركون فى تنفيذ هذه الأفلام لا يعترفون بأى قانون إلا قانون السرعة و(السربعة).. و(أبجنى تجدنى)!!.
وجدوا فى «حميدة» بديلًا محدود الميزانية، للنجوم الكبار أمثال «أحمد زكى»، «محمود عبد العزيز»، «نور الشريف»، وهو فى نفس الوقت وافق على هذا النوع من المقايضة.
كانت السينما تبحث عن نجم جديد ينضم إلى نجومها الراسخين، كان المنطق يقول إن كلًا من «ممدوح عبد العليم» و«هشام سليم» و«شريف منير» و«وائل نور» و«أحمد سلامة» و«أحمد عبد العزيز» وغيرهم هم الأقرب لاحتلال هذه المكانة، حيث إن بينهم وبين الجمهور عشرة، خاصة «ممدوح» و«هشام» وشريف من خلال الدراما التليفزيونية، إلا أن الرهان لم ينجح فى تحقيق نجومية الشباك لأى منهم، وهكذا وجد «حميدة» نفسه مع كل النجمات، الكل يرشحه للبطولة، والمخرجون سعداء بتواجده على الخريطة.. «نادية الجندى» ترشحه لبطولة «عصر القوة»، وترد عليها «نبيلة عبيد» لتسند له البطولة أمامها فى «سمارة الأمير»، ثم تنضم «يسرا» فتسند له البطولة فى «امرأة آيلة للسقوط»، ثم «ليلى علوى» فى «المساطيل»، حتى «فيفى عبده» وجدت أن «حميدة» يستحق أن تراهن عليه فى «مجانينو»!!. فى مشوار «محمود حميدة» دائمًا هناك حضور لأحمد زكى.. ليس فقط بسبب تلك الفرصة الذهبية التى منحها له، بدون أن يقصد بالطبع، عندما اعتذر عن «فارس المدينة»، ولكن لأنه شاركه البطولة ثلاث مرات فى «الإمبراطور» و«الباشا»، والفيلمان لنفس المخرج «طارق العريان»، ثم جمع بينهما «على بدرخان» فى «الرجل الثالث»، بل إنه عندما احتدم الصراع بين كل من «على بدرخان» و«خيرى بشارة» على المسرحية الإيطالية «جزيرة الماعز»، والتى قدمت فى فيلمى «الراعى والنساء» لعلى بدرخان الذى أسند دور البطولة إلى «أحمد زكى»، ورد عليه «خيرى بشارة» فى «رغبة متوحشة» وأسند الدور إلى «محمود حميدة»، لم يسع (حميدة) لتلك المقارنة، وهو لم يكن أبدًا ممن يبددون طاقتهم فى معارك وهمية.. كما أنه فى أعماقه يضع موهبة «أحمد زكى» فى مكانة خاصة جدًا، ظروف الحياة الفنية كثيرًا ما تسفر عن مثل هذه المقارنات!!.
مثلًا بعد أن لعب «أحمد زكى» دور الرئيس «جمال عبد الناصر» فى فيلم «ناصر ٥٦»، إخراج «محمد فاضل»، عام ١٩٩٦، فكر المخرج السورى «أنور القوادرى» فى تقديم فيلمه «جمال عبد الناصر»، كان المرشح الأول محمود حميدة، ونشرت بعض الصور وهو يرتدى البدلة العسكرية لجمال عبد الناصر، مع بعض إضافات خاصة عن طريق المكياج، ولكن بسبب خلاف فى الرؤية الفنية والسياسية بين «القوادرى» و«حميدة» توقف المشروع، وأسند المخرج- إنقاذًا للموقف- دور «عبد الناصر» إلى «خالد الصاوى»، وكانت هذه المرة الأولى التى يلعب فيها «خالد الصاوى» دورًا كان مرشحًا له «محمود حميدة».
الثانية كانت مع فيلم «عمارة يعقوبيان»، فى دور الصحفى «حاتم رشيد».. (المثلى جنسيًا) لم يكن حميدة هو الترشيح الوحيد، تعددت الترشيحات، تقريبًا كل نجوم مصر اعتذروا عنه تباعًا، مثل «حسين فهمى» و«فاروق الفيشاوى» و(هشام عبد الحميد) وغيرهم، أغلب النجوم وجدوا أن هذه الشخصية تلقى ظلالًا سيئة على نجوميتهم ومشوارهم، الجمهور لن يتقبلها، أما أسباب رفض «حميدة» فلقد كانت مختلفة تمامًا.. قال لى: (أنا ممثل محترف أؤدى كل الأدوار، ووافقت من حيث المبدأ، ولكننى اختلفت مع شركة الإنتاج على التعاقد المادى، طلبت مليون جنيه أجرًا أكبر مما تحملته ميزانية الفيلم)، ملحوظة كل من لعب هذا الدور يومًا فى حياته صار يتبرأ منه، مثل عادل إمام فى (سيد درويش)، حتى خالد الصاوى فى (يعقوبيان)، مرورًا بيوسف شعبان فى (حمام الملاطيلى) وغيرهم، إلا أن حميدة يتعامل باحتراف!!.
أهم الأفلام التى قدمها «حميدة» فى مشواره هى تلك التى كان وراءها مخرجون لهم رؤية إبداعية، مثل «فارس المدينة»، «يوم حار جدًا» محمد خان.. «إنذار بالطاعة» عاطف الطيب.. «حرب الفراولة» خيرى بشارة، ثم يشتعل تألقًا فى الثلاثية التى قدمها مع المخرج الموهوب الذى رحل مبكرًا أسامة فوزى، والأقرب وجدانيًا إلى حميدة وأفلامه «عفاريت الأسفلت»، «جنة الشياطين»، «بحب السيما»،، ومع يوسف شاهين، «المهاجر» و«إسكندرية نيويورك» و«المصير»، ثم «الأبواب المغلقة» شريف حتاتة.. «ملك وكتابة» كاملة أبو ذكرى.. «آسف على الإزعاج» خالد مرعى. لو طلبت منى أن ألخص محمود حميدة فى أربع كلمات سأجيبك قائلًا (الحريف المحترف المحترم الرايق)، نقطة ومن أول السطر!!.