بينما يزداد الصراع على لقب (صوت مصر)، بين أكثر من صوت مصرى جدير بكل تقدير، إلا أن هذا اللقب صار حصريا لصيقًا بشادية، جاءت الومضة الأولى لهذا اللقب من شادية، فهى التى منحت الشاعر محمد حمزة براعة الاستهلال وسحر البداية، عندما كان هو وتوأمه بليغ حمدى فى منزلها المطل على نيل الجيزة، لإجراء بروفة نهائية على العود لحفظ أغنية (عالى عالى) لتسجيلها فى اليوم التالى.
وذلك عام ١٩٧٠، وكانت مصر تعيش بين مرارة هزيمة ٦٧ والأمل فى الثأر مع حرب الاستنزاف، وقالت شادية من قلبها (يا حبيبتى يا مصر)، ملحوظة كان اسم مصر نادرا ما يستخدم لأننا منذ عام ١٩٥٨ ونحن نحمل اسم (الجمهورية العربية المتحدة)- (الإقليم الجنوبى)، سوريا هى الإقليم الشمالى، وبعد انتهاء الوحدة رسميا فى ٦١، ظل اسم مصر الرسمى (الإقليم الجنوبى)، بينما الضمير الجمعى المصرى يتوق لترديد اسم مصر.
حقق اللحن والكلمات وصوت شادية نجاحًا شعبيًا، برغم مرارة الهزيمة مبهجا، وقبل أن يعود لمصر رسميا اسم مصر أعاده الرئيس أنور السادات (جمهورية مصر العربية )، كانت شادية قد أعادت اسم مصر للشارع، صارت من بعدها هى (صوت مصر)، بتصويت ديمقراطى من المصريين، والعرب أيضا، الذين أحبوها وهى تردد (يا حبيبتى يا مصر).
التقيت الفنانة الكبيرة شادية مرة واحدة، كانت شادية تخشى (الميديا)، لن تجد لها أحاديث مرئية أو مسموعة أو مكتوبة إلا فى القليل النادر جدا، كانت شادية تعتقد أنها لم تخلق للكلام، ولكن للغناء والتمثيل، إلا أنك لو تأملت تلك الأحاديث النادرة ستكتشف مدى ذكائها وخفة ظلها وتلقائيتها، تزوجت شادية مطلع الستينيات من الكاتب الصحفى الكبير مصطفى أمين، وعندما ألقى القبض عليه، كانت شادية معه، وهذه قصة أخرى، أسبوعيًا كانت شادية تلتقى بأصدقائه من كبار الصحفيين أمثال كامل الشناوى وأنيس منصور وموسى صبرى وأحمد رجب، ورغم ذلك، ظلت شادية تتعامل بحذر مع الإعلام، رغم أنها كانت تنطلق على سجيتها عندما تلتقى بنجوم الكتابة والكلام.
أنا مثل كثيرين حاولوا التواصل معها أكثر من مرة، لإجراء حوار صحفى، وباءت محاولاتهم بالفشل، وفقدت الأمل، إلا أن القدر كان يحمل لى مفاجأة لم تخطر على بال.
فى مطلع الثمانينيات كنت فى زيارة تعودت عليها أسبوعيًا لمنزل الموسيقار الكبير محمود الشريف، علمت أنه سيستقبل بعد قليل شادية لإجراء بروفة على العود لأغنية (غربتنى الدنيا عنك)، فقلت له سوف أستأذن مبكرا حتى لا أفسد عليكما السهرة، والحقيقة أننى كنت أعلم مدى حساسية شادية فى التعامل مع الصحافة والصحفيين، إلا أن الشريف قال لى على الأقل انتظر حتى تسلم على شادية.
بيت محمود الشريف تعتبره شادية بيتها الثانى، والسيدة (فوقية) المشرفة على منزل الشريف كانت قريبة جدًا منها، وترتاح إليها، وفى نفس الوقت كانت شادية تحب ما تعده فوقية من أكلات شعبية، وهذه المرة تصدر المشهد (لحمة رأس)، وباقى التنويعات فشة وكرشة وممبار وكوارع.
لم أتوقع أن شادية تتعاطى ببساطة مع ما نطلق عليه (حلويات) اللحوم، بمجرد دخول شادية قال لها الشريف: (طارق ده ابنى وأعمامه كامل ومأمون الشناوى وكمان صحفى ولكنه هذه المرة ابنى فقط).
ووصلت الرسالة التى أرادها الشريف وقالت شادية كلامًا جميلًا عن أعمامى، واستأذنت فى الانصراف، حتى لا أفسد بروفة العود، التى تسبق عادة بروفة الفرقة، وقالت شادية لو عايز تسمع على شرط ما تكتبش أى حاجة، ووعدتها، وأضفت قائلا، أنت وأنا مواليد نفس اليوم (٨ فبراير)، تلك المعلومة على بساطتها لعبت دورًا إيجابيا فى شعور شادية بالارتياح.
والغريب أن شادية برغم سعادتها باللحن وكانت تردد أجزاء منه بصوتها على العود مع الشريف، وبين كل مقطع وأخر تُثنى عليه، إلا أنها فى نهاية الأمر اعتذرت عن تسجيله، وكان من نصيب ياسمين الخيام، ولم يحقق مع الأسف أى قدر من النجاح، الشريف كان يستلهم دائما صوت المطرب فى ألحانه، وكانت شادية هى واحدة من أقرب ثلاثة أصوات إلى قلبه بعد أم كلثوم وليلى مراد، تراجعت شادية عن الغناء، ولكنه أهدانى شريط تسجيل عليه اللحن بصوته مع شادية وأهديته قبل ٢٠ عاما للإذاعية القديرة مشيرة كامل، لإذاعته فى برنامجها (من تسجيلات الهواة)، أتمنى أن الإذاعة المصرية تظل محتفظة بتلك التسجيلات، لأننى أيضا أهديتها بروفة لسعاد حسنى مع محمود الشريف فى أغنية (لحظة سجودى) كتبها بهاء جاهين فى رثاء والده الشاعر الكبير صلاح جاهين، والأغنية لم يتم تسجيلها مع فرقة موسيقية، ولكنها وغيرها كنوز أتمنى أن تجد مساحة فى إذاعة الأغانى.
محمود الشريف هو صاحب مئات الألحان الناجحة لكبار المطربين وعلى رأسهم قطعا شادية التى أخذت القسط الأكبر، تليها ليلى مرد، وعبدالمطلب هو أكثر المطربين الذين تغنوا بألحانه.
لم أشأ أن أعرف من الشريف لماذا تراجعت شادية عن تسجيل (غربتنى الدنيا عنك) لإحساسى أن مجرد الإشارة بالسؤال سيسبب حرجا، وربما جرحا للشريف.
ورغم ذلك فإن علاقة الشريف لم تنقطع بشادية حتى رحيله ١٩٩٠ برغم اعتزالها ظل بالنسبة لها يلعب دور الأب، الذى أطلقت عليه اعتزازًا بفنه (خوفو الموسيقى الشرقية).
بعد نهاية البروفة بدأت فوقية تضع الأطباق على المائدة بمختلف الأصناف، وبكل رقة وعذوبة أصرت شادية أن نجتمع معا على تلك الأكلة الحراقة، ولم أنشر شيئا عن هذا اللقاء، والحوار الذى دار بين الشريف وشادية كان وسيظل أيضا ضمن تلك الأسرار، فقط أسجل الآن بساطة شادية وإحساسها الراقى وترحيبها الدافئ الذى لا يزال يسكننى.
أمس مرت ذكرى رحيل شادية ووجدت فى الذاكرة ما يستحق أن يروى عن الإنسانة شادية، التى قال عنها الشاعر الكبير كامل الشناوى مجرد ذكر اسم شادية فقط، هذا كافيًا حتى تنتعش الحياة كل الحياة!.