بقلم -طارق الشناوي
رؤية الفنان تُصبح أعمق عندما يبحر بعيدا عن اللحظة بتنويعاتها الزمانية والمكانية والنفسية، هذا هو ما حققته المخرجة والكاتبة التونسية كوثر بن هنيه بفيلمها (الرجل الذى باع ظهره)، افتتح به مهرجان (الجونة)، ويشارك أيضا فى المسابقة الرسمية، وأترقب اسمه عند إعلان النتيجة مساء الجمعة.
تعاملت كوثر بذكاء ورهافة حس مع الحالة التى تقدمها، إنسان بائس يحلم مثل الملايين فى عالمنا العربى والعالم الثالث وكل المهمشين فى دُنيا الله الواسعة، بالحصول على تأشيرة الاتحاد الأوروبى، اختارت شابا سوريا بائسا فقيرا ليصبح هو الهدف، بينما على الجانب الآخر فنان تشكيلى فرنسى يقرر من خلاله أن يصل للعالم احتجاجه على تلك العنصرية العالمية، يقع اختياره على هذا الشاب السورى لتُصبح المأساة مضاعفة، فهو قد سافر إلى بيروت هربا من بطش النظام السورى وتسلطه الأمنى الذى ازداد شراسة منذ 2011، لبنان يستقبل الملايين بحكم الجوار وصلة القربى والنسب، هناك أيضا رفض عدد من اللبنانيين، لأنهم يقاسمونهم رغيف العيش غير المتوفر أصلا، ليصبح الحلم هو أوروبا.
المقايضة واضحة أن تبيع جلدك لمن يدفع، مقابل أن تحظى بحريتك، وتترك كوثر بن هنية الكرة فى ملعب الجمهور لنقرر على أى شاطئ نرسو عليه.
الفكرة لها ظل من الحقيقة، وهناك فعلا من باع ظهره لكى ترسم عليه لوحة، ولهذا هى ملك للجميع، الأهم هو كيف تتناولها؟ وهو بالفعل ما حدث قبل نحو عامين مع فيلم مصرى بطولة محمد سعد، ربما لن يتذكره أحد لأنه فقط قدم الحبكة الدرامية وليس ظلالها. بيع الجسد هو أقدم مهنة فى التاريخ، ليس فقط المقصود الدعارة، لأننا فى النصف قرن الأخير وجدنا من يبيع الكلى وجزءا من الكبد والدماء لكى يعيش.
هذه هو العمق الفكرى الذى استند إليه الفيلم، وتم التعبير عنه بوهج سينمائى، يترك لك أنت أن تحدد موقفك، الشارى فنان لديه قضية يريدها أن تصل للعالم، إلا أنك بزاوية أخرى تجده مستغلا لحاجة الإنسان، يعنيه بالدرجة الأولى ذيوع لوحته وتحقيقه للشهرة، بينما القضية التى تؤكد تعاطفه مع المهمشين المبعدين من الدخول إلى جنة (التشنجين) تنزوى فى خلفية (الكادر)، الجانب الآخر من الصورة المواطن الذى يبيع، نقول فى أدبياتنا العربية (تموت الحرة ولا تأكل بثدييها)، بينما هو باع جلده وظهره.
تواجد مونيكا بيلوتشى، النجمة الإيطالية العالمية، كضيفة شرف منح الفيلم ألقا، لم تكن النجومية هنا هى الهدف لمجرد التسويق بقدر ما هى أحد أسلحة التصديق.
النهاية فى القاعة الفخمة لإقامة المزاد وارتفاع رقم الشراء بين المتنافسين، هم لا يمثلون بلجيكا فقط باعتبارها المكان الذى يجرى فيه الحدث، ولكنهم رمز للجناة الساديين فى كل العالم، الذين قرروا أن يشتروا جلد إنسان بمزاد وصل إلى 5 ملايين يورو، جاءت الذروة عندما يُمسك بطل الفيلم برباط للبنطلون، وكأنه حزام ناسف، ويهرولون جميعا خارج القاعة، فهو عربى إذن هو مشروع إرهابى محتمل.
كوثر بن هنية تملك قدرة استثنائية على فن قيادة الممثل، وهكذا شاهدنا الممثل الموهوب يحيى مهاينى تنطق عيناه قبل جسده بأنه يبيع الجسد، بينما روحه لا تزال أبية ترفض البيع!!