بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي
الأنظمة السياسية تختار أسلحتها بناء على تعريفها لنفسها وهويتها وطموحاتها، والفوضى والإرهاب هما أحد أسلحة النظام الإيراني التي يستخدمها حول العالم، وكل ما يتفرع عنهما من تفجيرات أو اغتيالات أو مظاهرات دموية أو ميليشيات، وبناء على هذا كله فقد اختار النظام الإيراني أن تكون الاغتيالات أحد أسلحته المحببة.
لم يتوانَ النظام الإيراني عن استخدام سلاح الاغتيالات عبر أربعين عاماً حكم فيها البلاد بالحديد والنار ولاحق المعارضين في المنافي لتصفيتهم والقضاء عليهم في أقاصي الدنيا، وجميع أفرع النظام الإيراني في المنطقة تستخدم الطريقة نفسها، في العراق وسوريا وفي اليمن ولبنان، وربما كان للبنان النصيب الأكبر من الاغتيالات فقد قام «حزب الله» باغتيالات واسعة النطاق على مدى زمني طويل.
تضيق المساحة هنا عن سرد جرائم التفجير والاغتيال التي قام بها النظام الإيراني أو أحد فروعه الإرهابية في المنطقة والعالم، وقد تم شيء من ذلك سابقاً في هذه المساحة، ولكن الجديد اليوم هو أن نفس السلاح الإرهابي بات أداة لخصوم النظام الإيراني في تتبع عناصره وحلفائه داخل إيران، فمن اغتيال أبي محمد المصري القائد في تنظيم «القاعدة» في طهران إلى اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده قرب طهران أيضاً يوم الجمعة الماضي.
جرائم الاغتيال السياسي معروفة لدى غالب الأمم والشعوب من شتى الديانات والأعراق والثقافات، وهي بشكل عام عمليات تقوم على الغدر وتتمرس فيها الجماعات السرية أكثر من الدول والحكومات منذ «الحشاشين» إلى «النظام الإيراني» وتنظيم «داعش».
وبما أن هذه الجرائم هي أحد الأسلحة المفضلة لدى النظام الإيراني فيبدو أن بعض خصومه أحبوا مبادلته الحرب بنفس الطريقة التي يفضلها وبذات الأسلوب الذي يتبعه.
مهم أن يعرف الناس أن محسن فخري زاده لم يكن عالماً مدنياً يدرس في جامعة أو يعمل في مختبر بل هو قائد في وزارة الدفاع الإيرانية ومسؤول عن الملف النووي وأحد قيادات «الحرس الثوري»، وبالتالي فمن اختار اغتياله فقد اختار أن يسبب ألماً ممضاً للنظام بأكمله يوازي ما يصنعه النظام بخصومه حول العالم.
لا أحد يعرف على وجه التحديد من هي الجهة التي خططت وقامت بالاغتيال حتى الآن، هل هي إسرائيل كما يلمح النظام الإيراني على لسان وزير خارجيته محمد جواد ظريف أم هي بعض الجماعات المعارضة للنظام من الداخل؟ هل هي أميركا أو (الشيطان الأكبر) كما يسميها قادة النظام، أم هي دولة أخرى تعادي النظام؟
هذه أسئلة مشرعة للمستقبل ولكن الواضح أن ثمة موجة منظمة لتصفية عناصر مهمة وأسماء كبيرة من قيادات النظام الإيراني في مجالات متعددة، فأميركا لم تختبئ حين أعلنت عن تصفية قاسم سليماني والعراقي أبو ماجد المهندس، ولم تختبئ عندما قامت بتصفية أبي بكر البغدادي قائد تنظيم «داعش» وبالتالي فلو كانت أميركا هي من اغتالت محسن زاده لأعلنت ذلك على الملأ واعتبرته نصراً لها ومفخرة تستحق الإعلان والإشادة.
الاتهامات بدأت تطال النظام الإيراني في العديد من الدول الأوروبية؛ من فرنسا وبلجيكا وألمانيا وإيطاليا والسويد وغيرها من الدول التي لم تعد تستطيع الصمت على الانتهاكات الصارخة التي ترتكبها إيران وعناصرها من المخابرات والجيش ضد معارضي النظام في تلك الدول، فقد بالغ النظام في ردود فعله وتجاوز الكثير من الخطوط الحمراء وإصراره على الاغتيالات كاستراتيجية ستدفع الكثير من الدول إلى معاملته بالمثل وإلى نشر فوضى وإرهاب مماثل داخل بلاده يستهدف رموزه.
إحدى مشاكل النظام الإيراني هي أن أعداءه كثيرون جداً في العالم، فقلما يجد الإنسان دولة لم يتدخل النظام الإيراني فيها بشكل أو بآخر وبالتالي عندما تجري عنده عمليات اغتيال فإنه لا يستطيع توجيه أصابع الاتهام سريعاً لدولة بعينها بناء على معلومات موثقة، ومن هنا فهو يختار «إسرائيل» دائماً لتحويل فشله الأمني والاستخباراتي إلى تجييش ديني ومذهبي يرفع من شعارات النظام ويعزز من آيديولوجيته.
هذه العمليات المستمرة والمتصاعدة هي أحد المؤشرات المهمة على أن العقوبات الأميركية القاسية قد أثرت بشكل كبير وملموس على قدرات النظام وتماسك مؤسساته التي ضعفت جراء العقوبات وهو لم يزل يتجلد للمصائب المتتابعة عليه حتى لا يبدو بمظهر الضعيف الخائف.
بدء ظهور آثار العقوبات الأميركية لم يكن وحده هذه المرة ولكن معه التفشي الهائل لفيروس «كورونا» في طول إيران وعرضها والإصابات بعشرات الآلاف والوفيات بالآلاف والنظام الصحي في إيران متخلف جداً وهو على حافة الانهيار في مواجهة هذه الجائحة. وبالإضافة لهذا بدأت دول كثيرة تكتشف جرائم النظام واختراقاته لسيادتها واعتداءه على مواطنيها واللاجئين فيها، وما محاكمة الأسدي في بلجيكا إلا نموذج واحد سيتبعه أمثاله.
تجلد النظام للمصائب التي تحيق به ومحاولاته عدم إظهار ضعفه... كلها تصب في أمل النظام بأن ينتصر جو بايدن بالرئاسة الأميركية ويعيد سيرة إدارة باراك أوباما السابقة من الخضوع للنظام الإيراني والخوف منه وبالتالي العودة إلى الاتفاق النووي المعيب سياسياً وتاريخياً، ويتمنى النظام أن التاريخ سيعيد نفسه ويخضع بايدن كما خضع أوباما.
بعد العام 2003 ونشاط تنظيم «القاعدة» في السعودية دعت وزارة الداخلية عدداً من الباحثين والصحافيين وعرضت بعض تدريبات التنظيم في السعودية، ولفت نظر كاتب هذه السطور مقطعٌ مصور يظهر بعض عناصر التنظيم يتدربون على عمليات اغتيال مستخدمين دراجات نارية للهجوم على السيارات وقتل ركابها، وبعدما تكشفت الحقائق وظهرت العلاقة الوثيقة بين التنظيم والنظام الإيراني اتضح أن عناصره تدربوا في إيران وعلى أيدي عناصر «الحرس الثوري» في أكثر من بلد في المنطقة، وهذه العملية داخل إيران تم تنفيذها بهذه الطريقة ولكن باتجاه معاكس هذه المرة.
منذ العام 2007 واسم محسن فخري زاده يتداول دولياً من إسرائيل وأميركا ومجلس الأمن الدولي، وقد تحدث عن خطورته رئيس الوزراء الإسرائلي بنيامين نتنياهو قبل عامين تقريباً وأعاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب تغريدةً تلمح لمعرفته بدور ما لتنفيذ هذه العملية الدقيقة.
أخيراً، فكما تدين تدان، ومن اختار أساليب الشر والاغتيالات والتفجيرات والإرهاب فيجب أن يعرف أن السحر قد ينقلب على الساحر وعلى الباغي تدور الدوائر.