ظهر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على شاشات التلفزيون في بلاده، وهو يشرح كقائدٍ عسكري على شاشة تقابله، خريطة المعارك على الأرض الليبية، مقراً بأن جنوده وضباطه ومرتزقته الذين جاء بهم من كل حدبٍ وصوبٍ، هم الذين يخوضون المعارك في ليبيا، ويواجهون الجيش الوطني الليبي، ويسميهم زوراً وبهتاناً، أحفاد عمر المختار!
هذا التصرف يعبر عنه في اللغة العربية بـ«الوقاحة»، ويتسم بـ«المغالطات» و«التناقض»، وهو خطاب المستعمر المحتل في كل زمانٍ ومكانٍ، وإردوغان في ليبيا مستعمر بكل التعريفات ومحتل بكل المعاني، وهو وعلوجه الأعاجم ومرتزقته غريبو الوجه واليد واللسان - كما يقول المتنبي - في صحاري ليبيا العربية، وبين شعبها الباسل البطل.
كانت الحرب في ليبيا واضحة المعالم، بين جيشٍ وطني يسيطر على معظم البلاد ويدعمه الشعب، وبين ميليشيات «إخوانية» إرهابية تسيطر على مساحة صغيرة في طرابلس وما حولها في الركن القصي بشمال غربي ليبيا. الميليشيات كانت «إخوانية» صرفة مع بعض الإرهابيين الليبيين المنتسبين لتنظيم «القاعدة» أو «الجماعة الليبية المقاتلة» من أمثال عبد الحكيم بلحاج ورفاقه، وقد انضم لهم إرهابيون من مثلث الإرهاب في شمال غربي أفريقيا بين الجزائر وموريتانيا ومالي، مع لفيفٍ آخر جاء بعضه من السودان ومن تشاد.
كانت هذه الميليشيات الإرهابية مدعومة من دولتين وتنظيم دولي، أما الدولتان فقطر للدعم المالي، إذ لا قيمة سياسية لها، ولم تُعرف إلا بسياسة دعم الإرهاب السني والشيعي بالمليارات، من جماعة «الإخوان» إلى تنظيم «القاعدة» و«داعش» و«جبهة النصرة» في سوريا، إلى ميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق بأصنافها وصولاً لميليشيا الحوثي. والدولة الثانية هي تركيا، ولها وزن سياسي بحكم إرثها وحجمها، وكونها عضواً في حلف «الناتو»، وكانت تقدم الدعم السياسي لهذه الميليشيات في ليبيا. أما التنظيم الدولي لجماعة «الإخوان» فهو الذي يحشد الرأي العام لرموز الإسلام السياسي، ويجمع التبرعات، ويصدر الفتاوى التي تُحلُّ قتل الشعب الليبي، وكل شعبٍ لا ترضى عنه جماعة «الإخوان».
ما جرى على الأرض هناك كان الانتصارات المتتابعة للجيش الوطني الليبي والشعب الليبي واندحار الميليشيات، وقرب تحرير التراب الليبي كاملاً من الخونة والميليشيات، على الرغم من كل الدعم الآتي من مثلث الشر السابق، فقرر إردوغان أن يحتل الدولة الليبية بشكل سافرٍ، بجيشه وقواته المسلحة الجوية والبحرية والبرية، في مشهدٍ ينتمي لقرونٍ ماضية، ولا ينتمي لعالم اليوم بأي حالٍ من الأحوال.
كل الهراء الذي يسوقه إردوغان ومن معه من كتائب التبرير من الأتراك ومن الخونة العرب والليبيين، لا يتعدى كونه ذراً للرماد في العيون، ولا يصدقه أحد حتى معلنوه ومروجوه، وهدف إردوغان الواضح هو «النفط» الليبي وطموحاته التوسعية في البحر الأبيض المتوسط، والاكتشافات النفطية الجديدة في لبنان ومصر، وهذه أهداف استعمارية لنهب ثروات الشعوب وإذلالها، والسيطرة عليها وعلى مستقبل أجيالها.
خطاب إردوغان وتبريراته للاحتلال متهافتة ومتناقضة، ولئن كان يعتمد على ما يسميه إرث أجداده العثمانيين، فمن السهل أن يقابله أي عربي سوري أو ليبي بإرث العرب في تركيا، فهم أحفاد الفاتحين الأوائل من الصحابة الذين يزعم إردوغان الانتساب لهم وتمثيل أهل السنة، هؤلاء العرب الذين يحتقرهم إردوغان الإسلاموي، هم أحفاد فاتحي تركيا الأوائل وناشري الإسلام واللغة العربية في رحابها، أحفاد أبي أيوب الأنصاري ومسلمة بن عبد الملك، ومن معهما من الصحابة والتابعين، فهل يرضى إردوغان بمنطقه نفسه؟
تمتلئ أدبيات جماعة «الإخوان» والإسلام السياسي بالشتيمة المقذعة للوزير العباسي مؤيد الدين بن العلقمي، بوصفه خائناً وغادراً وعميلاً للمغول والتتار، وهم اليوم يقومون بالدور الذي نسبوه له بحذافيره؛ بل وأشنع منه في خدمة الغازي والمستعمر إردوغان في ليبيا، وفي كل الدول العربية؛ حيث ظلوا لعقود يبجلونه، ويقدمونه للناس بوصفه الخليفة القادم للمسلمين، وهؤلاء جميعاً لم ينطق منهم أحد بكلمة أو فتوى ضد احتلال دولة عربية ونهب ثرواتها.
أصبحت ليبيا اليوم مركزاً إقليمياً لتقاطعات المصالح على مستوى المنطقة وعلى المستوى الدولي، فمصالح فرنسا وألمانيا وإيطاليا ثم تركيا وروسيا وأميركا، كلها عقدت المشهد الواضح هناك، والكل طامع في ثرواتها ونفطها المتميز وموقعها الجيوسياسي المقابل لجنوب أوروبا.
يخطئ الرئيس الأميركي ترمب إذا اعتقد أن ثالوث الشر القطري التركي الإخواني يمكن أن يحمي مصالح أميركا في المنطقة، فتركيا الإردوغانية هي نسخة سنية من النظام الإيراني وولاية الفقيه، ومن هنا فإن أولويات الدول العربية تختلف عن الأولويات الأميركية في ليبيا، ومن هنا جاءت المبادرة المصرية المدعومة خليجياً وعربياً ومن بعض الدول الأوروبية كفرنسا، لتمثل حلاً ضرورياً لما يجري هناك.
كل من دخل صحاري ليبيا تاه فيها وغرق في رمالها، حاول الجنرال الإيطالي غراتسياني السيطرة عليها، وتبعه الجنرال الألماني روميل في صراعه مع الجنرال البريطاني مونتغمري، وفشلوا جميعاً وخرجوا يجرون أذيال الخيبة، فما الذي يقنع إردوغان بأن مصيره سيكون مختلفاً؛ خصوصاً أن الإرث العثماني الذي يعتمد عليه هو أسوأ من كل تلك النماذج التاريخية في ذاكرة الشعب الليبي.
الغزو العسكري التركي السافر لليبيا بدأ من فترة قصيرة، فبدأ الجميع يسمع بتصريحات رئيس البرلمان التونسي الداعم لتركيا وإردوغان و«الإخوان» من دون خجلٍ أو مراعاة للدولة التونسية، ومعارضته الأبرز عضو البرلمان عبير موسى بدأت تأتيها التهديدات من الميليشيات الليبية العابرة للحدود، دفاعاً عن الغنوشي، وبالتالي فالصورة واضحة ولا تحتمل اللبس عما يدور في ليبيا بعد الغزو التركي.
إن صمت العالم عن هذا الغزو والاستعمار التركي لليبيا فسيتغير وجه العالم، وستعود موجة أعتى من الإرهاب والأصولية التي تهدد العالم، وصراعات المصالح الآنية قد تخلف خطراً طويل الذيل زمانياً ومكانياً في العالم بأسره.
أخيراً، فغدر «الإخوان» وخيانتهم لأوطانهم مبنية على تنظير آيديولوجي عميق في خطابهم، يقوم على عدم اعترافهم بشرعية الدول القائمة، حتى في الدول التي تسمح لهم ولم تصنفهم إرهابيين بعد. وإن عملهم في مؤسسات هذه الدول هو لهدفٍ واحدٍ، وهو إسقاطها والسيطرة على السلطة فيها، هذا هو تفكيرهم من حسن البنا إلى سيد قطب وكل مرشدي الجماعة، وصولاً إلى القرضاوي.