تأملاتٌ في التاريخ والسياسة

تأملاتٌ في التاريخ والسياسة

تأملاتٌ في التاريخ والسياسة

 العرب اليوم -

تأملاتٌ في التاريخ والسياسة

بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي

«التاريخ يكتبه المنتصرون»، عبارة شهيرة وإن لم تكن صحيحة؛ فالتاريخ ذو معانٍ عدة، وكاتبوه كثرٌ، وهو كأحداث جرت في الماضي معنى، وكعلمٍ له مناهجه وأدواته معنى آخر، وكمعرفة ووعي به معنى ثالث، وتتعدد المعاني وتختلف زوايا النظر، وكاتبو التاريخ ليسوا المنتصرين فحسب، بل قد يكتبه المنهزمون باعتبار الانتصار والهزيمة. وقد يكتبه المحايدون والمختصون والرواة، وقد يكتبه المتفرغون له دون مشاركة في صنعه، وقد يكتبه المؤدلجون الذين يفسرون حراكه كما يشتهون.

جرى هذا في كل الأمم والدول والشعوب، وهو جزء من تراث البشرية الظاهر وتواريخها المعروفة، وتاريخ اليهودية وتاريخ المسيحية كتبه المنهزمون لا المنتصرون في تلك الأزمنة، وفي التاريخ الإسلامي أمثلة لا تحصى، فبنو أمية على سبيل المثال هُزِموا وسقطت دولتهم في أقل من قرنٍ من الزمان، وبنو العباس انتصروا وبقيت دولتهم 5 قرونٍ متتابعة، ومع ذلك فما زال تاريخ بني أمية معروفاً وفضائل حكمهم منتشرة متداولة، وإن كثر خصومهم وكتبوا وأكثروا في ذمهم وتشويههم.

لماذا يكتب المؤرخ التاريخ؟ الأسباب كثيرة ومتعددة، ولكن منها كتابة التاريخ إرضاءً للحكام والأمراء وأصحاب السلطة، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد كتب ابن الأثير كتابه «الكامل في التاريخ» إرضاء لـ«الملك الرحيم»، أبو نصر فيروز أمير البويهيين في العراق، وتأليف الكتب لهذه الطبقة كثيرٌ في التراث العربي في شتى فنون الأدب والتأليف، ومنها التاريخ، والأمثلة كثيرة.

كُتِبت كتب كثيرة في التاريخ بشكل عامٍ أو في فتراتٍ معينة منه، وكُتِبت كتبٌ في السيرة النبوية وفي سير الأعلام، وقامت علوم الحديث من علم الرجال وعلم العلل وغيرها بما يقترب من علم التاريخ ولا يطابقه، وكَتَب التاريخَ في مجمله المنتمون لمذهب أهل السنّة الذين يمثلون «المتن» والأكثرية في الإسلام، ولكن غيرهم كتبوا في التاريخ كذلك، وأشهر المذاهب التي تمثل الأقلية «المذهب الشيعي»، وله كتبه في التاريخ.

التراث الإسلامي زاخر بمدارس فكرية وخطابات دينية، لكل منها مذهب في الفقه وعقيدة في الكلام ومدرسة في السلوك، وبالتالي فهي تعرض التاريخ الإسلامي بحسب زاويتها من النظر ومجمل خطابها، فتنوعت كتب التاريخ وافترقت في سرد الأحداث وتأويلها، و«المذهب الشيعي» الكريم له كتبٌ معتمدة في التاريخ، منها كتاب «الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد» للشيخ المفيد، وكتاب «إعلام الورى بأعلام الهدى» للطبرسي وغيرها كثير، وفي المذاهب والفرق الأخرى ما يشبه هذا.

عند حدوث إصلاحات تاريخية في الدول والمجتمعات تقوم بطبيعة الحال مراجعات كبرى في شتى المجالات لدعم هذه الإصلاحات، وتثبيت أسسها الجديدة وترسيخ مبادئها، حرصاً على المسيرة أن تكتمل وتبلغ مداها، ومنعاً لأي انتكاساتٍ تعيد عجلة الزمن إلى الوراء؛ فأي إصلاحاتٍ لا يتم تأسيسها فكرياً وفلسفياً ولا يتم تأصيلها نظرياً لا تثبت عند الجدل، ولا تكون قادرة على مواجهة انحرافات الماضي ولا دعم إصلاحات الحاضر، فضلاً عن تطلعات المستقبل.

ولأهمية هذه المراجعات، فمن الواجب أن تقودها رؤية فكرية جديدة وفلسفة شاملة تتضافر أطرافها وتتكامل عناصرها عبر آلية الهدم والبناء، النقد والتصويب، وأن تشمل الخطابات الفكرية والدينية قديماً وحديثاً، فتتناول ما هو أكبر من مجرد جماعات أو شخصيات، لأن تفكيك الخطابات أصعب بكثير من تفكيك التنظيمات، مع عدم التقليل من تناول الجماعات والشخصيات بكثيرٍ من النقد والقراءة.

الإصلاحات التاريخية الكبرى في تجارب الدول والمجتمعات يفضل البعض استخدام مصطلح «الثورة» لوصفها، ومصطلح «الثورة» تعتريه كثير من الشوائب في التعبير عن الأحداث الكبرى في تواريخ الدول والشعوب؛ فليس كل تغير للحكم «ثورة»، فقد يكون «انقلاباً» أو «صراعاً»، وقد اشترط بعض الفلاسفة أن يؤدي تغيير الحكم إلى «التنوير» حتى يستحق هذا الاسم، وقد رصدت حنة أردنت تطوّر المصطلح من علم الفلك إلى علوم الاجتماع واختلاف معناه من «عودة النظام» إلى «تغيير النظام».

الثورة الفرنسية غيرت شكل فرنسا إلى الأبد لا في السلطة فحسب، بل في المجتمع والثقافة، والثورة الشيوعية في روسيا والصين أنهت وإلى الأبد عهد الأباطرة والقياصرة لا سياسياً واقتصادياً فقط، بل واجتماعياً وثقافياً، أما الثورة البريطانية، فقد كان لها أثر كبيرٌ، وإن لم تصل إلى حدة الثورة الفرنسية أو الثورتين الشيوعيتين.

ومصطلح «الثورة» يُستخدم في مجالات متعددة غير السياسة والحكم، فثمة ثورة في العلوم وثورة في الأفكار وثورات في مجالاتٍ مختلفة، وفي منطقة الشرق الأوسط، فإن «الثورة» بمعناها السياسي، أصبحت تُطلَق في الخمسينات على «الانقلابات العسكرية» التي يقوم بها العسكر، وأكثر شعوب المنطقة استخداماً لمصطلح «الثورة» بالمعنى السياسي هما الشعب الإيراني والشعب المصري، ولذلك تجد تاريخ هاتين الدولتين مليئاً بالثورات التي تتكرر كثيراً وتختلف في حجمها وتأثيرها ودلالتها.

«إعادة كتابة التاريخ» هي مرحلة مهمة تعقب «الثورات» أو الإصلاحات الكبرى والتطويرات الاستثنائية، وهي مرحلة لازمت مثل هذه التجارب على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، ودونها لا يكتمل شيء، وتصبح «الثورات» أو «الإصلاحات» أو «التطويرات» مجرد شذوذٍ عن القاعدة لا تلبث الشعوب أن تتجاوزه لتعود لما ألفته من قبل وما اعتادت عليه، دون أي تجاوزٍ حقيقي أو بنَّاء قابل للاستمرار والديمومة.

و«إعادة كتابة التاريخ» تشمل سرداً مختلفاً للأحداث وإعادة ترتيب لها، وتمنحها سياقاً جديداً وتأويلاً يضفي عليها معانيَ مختلفة، وعلى مستوى التفاصيل، فلطالما غيّر اكتشاف «نقشٍ» جديدٍ روايات تاريخية مستقرة، ويصح مثل هذا في العثور على «مخطوطات» مفقودة أو «وثائق» منسية تمنح مجالاً رحباً لإعادة كتابة هذا الجزء أو ذاك من التاريخ القديم أو الحديث، بشكل عامٍ أو بشكل محددٍ.

كان «الخلفاء» و«الأمراء» يدركون قيمة التاريخ ويجزلون العطاء لمن يكتبه، وفي العصور الحديثة زاد إدراك الدول لأهميته فصارت له مؤسسات كبرى تعتني به وتضمن أثره، وقد حدثت جرّاء ذلك أخطاءٌ وانحرافاتٌ بحسن نية أم بسوئها، وقامت عمليات تحريفٍ كبرى أثرت على دولٍ وأمم وشعوبٍ، ويكفي قراءة تاريخ «الدولة العثمانية» وكتبها ووثائقها مقارنة مع ما كتبته الدول والشعوب التي استقلت عن حكمها وسلطانها لتجد البون الشاسع بين التاريخين.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تأملاتٌ في التاريخ والسياسة تأملاتٌ في التاريخ والسياسة



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 21:48 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة
 العرب اليوم - انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة

GMT 09:23 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
 العرب اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 18:34 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

جماعة الحوثي تعلن تنفيذ 3 هجمات على أهداف حيوية في إسرائيل
 العرب اليوم - جماعة الحوثي تعلن تنفيذ 3 هجمات على أهداف حيوية في إسرائيل

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
 العرب اليوم - الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024

GMT 05:57 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

المحنة السورية!

GMT 07:17 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

اليمامة تحلّق بجناحي المترو في الرياض

GMT 19:01 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

6 قتلى في قصف للدعم السريع على مخيم للنازحين في شمال دارفور

GMT 22:51 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الإسرائيلي يأمر بإخلاء شمال خان يونس "فوراً" قبل قصفه

GMT 20:03 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

القبض على موظف في الكونغرس يحمل حقيبة ذخائر وطلقات

GMT 20:27 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

دعوى قضائية على شركة أبل بسبب التجسس على الموظفين

GMT 22:06 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

إيقاف واتساب في بعض هواتف آيفون القديمة بدايةً من مايو 2025

GMT 08:16 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

وفاة أسطورة التنس الأسترالي فريزر عن 91 عاما

GMT 18:35 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

العراق ينفي عبور أي فصيل عسكري إلى سوريا

GMT 18:29 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

قصف إسرائيلي على مناطق جنوب لبنان بعد هجوم لحزب الله

GMT 17:20 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

هنا الزاهد توجه رسالة مؤثرة إلى لبلبة

GMT 18:45 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

ولي العهد السعودي يستقبل الرئيس الفرنسي في الرياض

GMT 11:32 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الاحتلال ينسف مبانى بحى الجنينة شرقى رفح الفلسطينية

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024

GMT 11:35 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

فقدان ثلاثة متسلقين أثناء صعودهم لأعلى قمة جبل في نيوزيلندا

GMT 21:48 2024 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

انسجام لافت بين إطلالات الملكة رانيا والأميرة رجوة

GMT 08:11 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

ارتفاع حصيلة ضحايا فيضانات تايلاند إلى 25 قتيلا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab