بقلم - د. محمود خليل
تسيطر شخصية «عاشور الناجى» على الحكاية الأولى من حكايات الحرافيش للمبدع الراحل نجيب محفوظ، بحكم أنه بطلها، لكن ثمة شخصية أخرى تستحق التأمل داخل الحكاية، وهى شخصية «الشيخ عفرة زيدان»، الرجل الذى عثر على «عاشور الناجى» إلى جوار السور العتيق للتكية، فالتقطه وتبناه ورباه فى كنفه.صورة جليلة رسمها نجيب محفوظ للإنسان المتدين أو للمتدين المثالى عبر شخصية الشيخ «عفرة».
فهو شخص صابر على الابتلاء، وقد ظهر ذلك فى أمرين، أولهما الصبر على فقد البصر، والثانى الرضاء بقضاء الله حين تزوج من امرأة عقيم لم تنجب له أولاداً. صبر «الشيخ عفرة» كان مشفوعاً بالرضاء بقضاء الله وقدره، لا يشوبه أى إحساس بالغضب، لأنه ببساطة يرى أن سعادة الإنسان فى الحياة ليس مصدرها أسباباً من الدنيا، بل تنبع من القلب المؤمن.
كان الشيخ «عفرة» يرى سعادته فى أناشيد البهجة التى يرددها فى التكية، وفى الصلاة فى مسجد الحسين، وفى حفظ وتحفيظ وتعليم كتاب الله للصغار، وفى إرضائه سبحانه وتعالى.. فالقلب المؤمن يرى سعادته فى التعلق بالله.
تجد أيضاً فى صورة «الشيخ عفرة زيدان» تجسيداً لحال المتدين المثالى -من وجهة نظر نجيب محفوظ- فى علاقته بالآخرين، فهو يسعى بينهم كالريح الطيبة، التى تبث الخير أينما تحل، يرعى ضعيفهم، وينصح عاصيهم بالحسنى، ويعلمهم الرضاء بعطاء الله، وأن عطاءه سبحانه وتعالى هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وأن لكل حظه فى الحياة، وهو لا يزيد أو ينقص عن حظ غيره، وأن الإنسان يهتز حين يستحوذ عليه شيطانه فيصور له أن نصيبه فى الحياة أقل من غيره، فيدفعه إلى الحقد والحسد على الغير، وأن الإثم محله القلب، مثل الرضا تماماً، وأن القلوب تدفن فى ظلمة الإثم، لتجعل من الإنسان تمثالاً حجرياً، لا يشعر ولا يحس بما حوله ومن حوله، وأن الرضا يحيى أنوار القلب، ويمنح صاحبه السعادة فى الدنيا والآخرة.
ولا تعنى طيبة الشيخ «عفرة» ضعفاً أو عجزاً عن مواجهة الشر أو أصحابه، على العكس تماماً، فقد امتلك قوة مذهلة فى مواجهة أعتى العتاة داخل الحارة، بما فى ذلك «الفتوة» المتجبر الذى كان يخشاه ويخافه الجميع، وهو الرجل العجوز الكفيف المتهالك الذى لا يجيد استخدام عصاه إلا كأداة لتحسس طريقه فى الظلام الأبدى.
آمن الشيخ أن القوة لا بد أن تكون فى خدمة الناس وليس فى خدمة الشيطان، لذلك واجه الفتوة بالرفض الحاسم، حين طلب منه دفع الإتاوة، مثله مثل سكان الحارة، وعلّم عاشور الناجى ألا يدفعها، لأن الإتاوة حرام على من يدفعها وحرام على من يأخذها، أما الزكاة فحق يعرفه المؤمن فى ماله، ويدفعها القادر لغير القادر.
من يقرأ سيرة «الشيخ عفرة زيدان» فى حكاية «عاشور الناجى» قد يظن أن الرجل لم يترك أثراً بعد رحيله، فهو لم يخلّف فى الحياة ذكراً أو أنثى، وكلامه الطيب الذى كان ينصح به الآخرين ذهب فى الأغلب أدراج الرياح، حين لم يجد أذناً تسمعه، لكن المسألة بدت غير ذلك، لأن ربيبه، عاشور الناجى، الوحيد الذى كان يسمعه ويتمثل كلامه فى قلبه، تمكن وحده من أن يعيد رسم مصير الحارة، وكان ترجمة للقول الشريف: لأن يهدى الله بك رجلاً خير من الدنيا وما فيها.