محمود خليل
أراهن نفسي كثيرا وأنا أستمع إلى أغنية لهذا المطرب أو المطربة.. وأقول إن الشاعر «اللي في بالي» هو الذي كتبها. فما دامت الأغنية تقطر بالمعاني الراقية وتشع منها أنوار الرومانسية وتوخز القلب بالوجع والذهن بوهج الذكريات فلا بدَّ أن تكون لذلك الشاعر.
أستمع إلى فريد الأطرش في «أول همسة» أو «الربيع» فأقول لا بد أنّه هو.. إلى عبدالحليم في أغنيته «في يوم من الأيام» فأقول مؤكد أنّه هو.. إلى «أم كلثوم» في «أنساك» فأقول «ومن غيره؟».. إلى عبدالوهاب في «كل ده كان ليه» و«من أد إيه كنا هنا» فيقفز اسمه في ذهني على الفور.
أحدثك عن الشاعر والصحفي الراحل «مأمون الشناوي»، أعرف أنّ الشعر والغناء أذواق، وكل إنسان له تفضيلاته، وأعلم أنّك قد تتفق أو تختلف معي في هذا الرأي، لكنني أثق في أنّ عددا لا بأس به من محبي الكلمة العذبة والأنغام الراقية قد يتشاركون معي في أنّ الأغاني التي ذكرتها لها موقعها الفريد في مشوار الإحساس داخل مصرنا المحروسة.
من منا ينسى أم كلثوم وهي تشدو بـ«كان لك معايا أجمل حكاية.. في العمر كله».. أو «فريد» وهو يشدو بـ«لمين بتضحك يا صيف لياليك وأيامك».. وعبدالوهاب وهو يغني: «قال لي كام كلمة يشبهوا النسمة في ليالي الصيف».. ولصوت عبدالحليم وهو يتدفق بـ«لو كان الدمع يجيبه كنت أبكي العمر عليه».
إنه مأمون الشناوي الرجل الذي عرف كان يغزل من الكلمات العادية التي تتردد على ألسنة المصريين معاني رائقة بديعة، حين تفاعلت مع إحساسه.. فما أكثر ما نردد ونحن نسترجع ذكرى هبوطنا على مكان ما: «من أد إيه كنا هنا؟»، انظر إلى هذه العبارة حين مرت على إحساس «مأمون» الشناوي في أغنية «من أد إيه كنا هنا.. من شهر فات ولا سنة».
ما أكثر ما نردد أنّ السنين تمر زي الثواني، نعرف كيف نقول هذه العبارة، ولكن من يملك عبقرية أن ينحت المعنى الذي جعل جمهور أم كلثوم يصرخ حين سمعوها تشدو بعبارة مأمون الشناوي: «وإن كنت أقدر أحب تاني أحبك انت». عبارة بسيطة لكنها معجزة ولا يستطيع أن يبدعها إلا أصحاب النفوس البديعة.. كيف حوَّل مأمون الشناوي قاموس البشر العاديين بما يمتاز به من تلقائية وعفوية إلى شعر بسيط عميق: «بصراحة وبكل صراحة» (فايزة).. «انسى الدنيا وريح بالك» (عبدالوهاب).. «باب السما مفتوح لدعوة المظلوم» (فريد).. «بعد إيه أبكي عليه» (عبدالحليم).
هذا الإنسان الذي كتب أجمل الكلمات التي صاغت وجدان الأجيال التي عاصرته، وعبرت معانيها البديعة إلى بعض أفراد الجيل الجديد (Gen z) ممن ما زالوا يعرفون للإبداع قيمته، لم يأخذ -في ظني- ما يستحق من التقدير في حياته الثرية الغنية، سواء كشاعر أو كصحفي، أو بعد رحيله عام 1994.
يقول المبدع الراحل «خيري شلبي» في كتابه «أعيان مصر»: «مأمون الشناوي لاحقه سوء الحظ إعلاميا حيا وميتا.. يلوح لي أحيانا أن شهرة الشاعر الراحل كامل الشناوي التي طبقت الآفاق فعلا قد ظلمت شقيقه مأمون الشناوي ظلما بيّنا».
فهل كان ذلك كذلك.. أم أن للمسألة أسباباً أخطر تتعلق بعمله كصحفي بصورة أو بأخرى؟