بقلم - خالد منتصر
الكاتب والصحفى والمؤرخ الراحل صلاح عيسى بداخله روائى شغوف ضل الطريق إلى الصحافة التى أخفت ماكيناتها الهادرة موهبة روائية ضخمة لو أتيح لها المجال لنافست قمم كتاب الرواية، وهو بالفعل كتب رواية وأحرقتها للأسف إدارة السجن وكأنها بحرقها ترسل رسالة قدرية لـ«صلاح»، عليك بالغوص فى التاريخ وإهداء المصريين اللؤلؤ والدرر، وبالفعل هو قد أهدانا قراءة تاريخية لا غنى عنها لأى مثقف مصرى، لذلك توقعت وراهنت على أن كتابه «شخصيات قلقة فى عالم نجيب محفوظ» سيكون قراءة مختلفة ومتفردة وممتعة فى نفس الوقت، ولم أخسر رهانى، الكتاب صادر عن دار «نظر»، وجمعته زوجته المخلصة الجميلة أمينة النقاش فى مشروعها لجمع ما كتبه صلاح عيسى، وتناثر على صفحات المجلات والجرائد طيلة سنوات عمله وفصله ومنافيه، الشخصيات القلقة كلها عاشت فى كنف ثورة يوليو، وتمثل قراءة لهذا العهد من كافة الزوايا، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو وجودية.تتجلى عبقرية نجيب محفوظ زرقاء اليمامة الذى لو كانت قراءته فرضاً على النظام حينذاك، لكانوا قد أدركوا أن هزيمة ٦٧ على وشك الحدوث
يقرأ لنا «صلاح» ويحلل منذ البداية فى شخصية سعيد مهران بطل «اللص والكلاب»، المصدوم فى خيانة زوجته مع صديقه، وخيانة صديقه الطالب الثورى الذى كان يبرر له السرقة من الأثرياء، ثم بعد الثورة تحول إلى أراجوز يبيع نفسه لمن ينفحه أكثر، ينتهى بـ«مهران» الحال إلى موته فى المقابر بين نباح الكلاب والميكروفون يقول: «سلم نفسك للعدالة»، مات وهو لا يزال يبحث عن معنى العدالة، عيسى الدباغ بطل «السمان والخريف»، الذى هاجر لخريف الإسكندرية، مراقباً السمان المتساقط على شباك الصيد وهو يظن أنه قد أنجز المغامرة!!
صعد «عيسى» فى وقت الوفد إلى القمة وفصلته الثورة فى التطهير، وصعدت بقريبه «حسن» الذى خطف خطيبته منه، عمر الحمزاوى بطل الشحاذ الذى يبحث عن معنى وجوده بعد أن قال له موكل عنده: «ما إحنا بنعيش وإحنا عارفين إن ربنا هيقبض روحنا»، كان يرد على الحمزاوى الذى أخبره بأنه سيكسب له قضية الأرض لكنها ستصادر، هو عايش ليه ومكمل؟ سؤال وجودى فرض نفسه على الحمزاوى الذى لم يجد الإجابة فى المال أو النساء أو الثورة
ثم نأتى إلى صابر الرحيمى بطل «الطريق» الذى يطل يبحث عن أبيه طيلة الرواية إلى أن يعرف طريقه بعد قتل صاحب البنسيون، ولكنه كان كالسراب، أباً هو عبد لملذاته، كالبخار لا يستطيع أن يقبض عليه، أما أنيس زكى، وزير الكيف فى عوامة «ثرثرة فوق النيل»، فهو الكومبارس الغارق فى المخدرات الذى يقرر فى نهاية الرواية أن يصعد على خشبة المسرح ويعرى جميع المثقفين المغيبين الذين قتلوا فقيراً مجهولاً بالسيارة فى لحظة سكر وعربدة، لكنه يصمت فى النهاية وهو يرى نذر ونيران الهزيمة تقترب لتلتهم العوامة.كتاب لا بد أن يقرأ، فهو يثبت أن عبقرية نجيب محفوظ هى بئر إبداع لن ينضب، وستكتشف كلما نهلت منه أنك ما زلت متعطشاً لقراءة المزيد.