بقلم - إميل أمين
على مشارف نهاية عام، رُبّما يَعِنُّ لنا أن نتساءل عن أحوال العالم عَبْرَ عامٍ مضى، ومآلات العام الجديد الذي سيَهِلُّ علينا، ونأمل في أن يكون أفضل من سَلَفِه.
حكمًا لا تبدأ السنة الجديدة أحداثها في فراغٍ كونيٍّ حياتيّ، بل إنّها تنطلق من عمق أحداث العام السابق، حيث وصل النظام الدوليّ إلى أعلى درجة من درجات التشوش والاضطراب، ما بين حروب بشريّة وأخرى إيكولوجيّة، ما جعل الكثيرين يتساءلون: هل عالمُنا مُقبِلٌ على التحَوُّل من حروب باردة منتشرة فوق بقاع وأصقاع المسكونة، إلى حرب عالمِيّة ساخنة، قد لا تُبقِي ولا تَذَر.
ولعلّه من المؤكَّد أنّ جردةً شافية وافية للعام المنصرم، أمرٌ يحتاج إلى ما هو أكثر من مقال، ومع ذلك سنحاول مشاغبة بعض المرتكزات التي تصلح لفهم سياقات الأحداث العالميّة، وفي المقدّمة منها أوضاع الولايات المتحدة الأميركيّة، وهل لا تزال في ذات موقع وموضع القوّة الذي كان قبل أعوام، أم أنّ هناك مُربَّعات نفوذ جديد ملأتْها قُوى صاعدة واعدة.
أحد أهمِّ الكُتّاب والباحثين الأميركيّين الذي انشغلوا وشغلوا العالم بأوضاع الولايات المتحدة، وعالم ما بعد أميركا، فريد زكريا، الهنديّ الأصل الأميركيّ الجنسِيّة والذي قطع في مقال أخير له بصحيفة الواشنطن بوست الأميركيّة بأنّ السياسة الداخليّة الأميركيّة التي وصفها بـ"القبيحة"، تلقي بظلالها على جميع أنحاء العالم في عام 2024، وعنده أنّ 2023 قد شَهِد أحداثًا عديدة تمثّل تحَدِّيًا كبيرًا للنظام العالميّ الذي تبَنَّتْه الولايات المتحدة، والذي يتَعَرَّض الآن إلى تحَدِّيات جِسَام في ثلاث نقاط مركزيّة حول العالم .. ماذا عن ذلك؟
النقاط الثلاث التي يتناول زكريا شأنها، تتمَثَّل في الحرب الروسيّة الأوكرانيَّة، والمواجهات المُسلَّحة في غَزَّة، عطفًا على نفوذ الصين المتنامي.
والشاهد أنّها نقاط ملتهبة بالفعل، غير أنّ هناك العديدَ من الزوايا الأخرى التي يمكن من خلالها النظر إلى قادم العام الجديد، وفي البداية معركة البشريّة مع الطبيعة.
يَعِنُّ لنا أن نتساءل: "هل ستوضع مُقرَّرات "كوب 28" على سبيل المثال موضع التنفيذ الجِدّيّ، لاستنقاذ العالم من وهدة الهلاك البيئيّ؟
يُحدِّثنا نفرٌ غير قليل من علماء المناخ أنَّ صيف العام 2024، سيكون الأكثر حرارة منذ عقود طوال، ما يعني أنّ هناك حاجةً ماسّة إلى الكثير من الطاقة التقليديّة لتوليد الكهرباء، الأمر الذي يُوَضِّح أهمّيّة الطاقة الأحفوريّة حتّى الساعة، وعدم وجود بديل مناسب لها، ما يلقي بعبء كبير على العلم والعلماء في التعاطي مع هذه الطاقة، ولكن بوسائل وآلِيّات تخفض في الوقت عينه من انبعاثات الكربون، ولكي تستقيم الحياة.
تبدو أزمةُ المناخ أهمَّ قضيّة ينبغي للعالم أن يُوَلِّيَها اهتمامًا، في مواجهة غضبة الطبيعة، وبجانبها تبدو ملفّات قديمة تكاد تطُلُّ بوجهها من نافذة الأحداث، بعد أن خُيِّل للمرء أنّها مضت من غير رجعة، كما الحال مع فيروس كورونا المُستجَدّ.
ليس سرًّا أن المشهد يحتاج إلى متابعات علميّة وطبّيّة عالمية، سيّما في ظلّ الحديث الدائر والسائر عن متحوّرات جديدة، بدأت بالفعل في الظهور في عدد من دول العالم، بدءًا من الولايات المتحدة الأميركيّة، قد سبقتْها الصين كالعادة حين طفا على السطح فيروس تنَفُّسِيّ جديد يُهدِّد أطفالها ومن بعده أطفال العالم.
وما بين الإيكولوجيّ والبيولوجيّ، تبدو الحروبُ ماضيةً قدمًا، وفي المقدمة منها الملفّ الروسيّ – الأوكرانيّ، حيث لم يحسم أيٌّ من الطرفَيْن الموقعة والمعركة، بعد نحو عامَيْن من انطلاق النيران غير الرشيدة.
روسيا ستعيش هذا العام انتخابات رئاسيّة، ولايزال الوضع غائمًا، حول ما إذا كان القيصر فلاديمير بوتين سيترَشَّح مرّةً أخرى لرئاسة الدولة أم لا، وتأثيرات القرار على المواجهة الجارية مع حلف الناتو، بتوكيل أوكرانيّ.
هنا يرى زكريا أنّ الواقع الروسيّ يخبرنا بأنّها تمتلك اقتصادًا أقوى تسع مرّات من اقتصاد أوكرانيا، ما عني حتميّة استمرار الدعم الغربيّ لأوكرانيا برأس حربة أميركيّة كالمعتاد.
لكن علامة الاستفهام: إلى أيّ مدى سيستمرّ هذا الدعم؟
تبدو الحوارات المتسائلة من الداخل الأميركيّ نفسه، وبخاصّة في ظلّ الكثير من المتغيّرات، وعلى رأسها الدعم الكبير والواسع المقدَّم لإسرائيل، والذي استنزف الكثير من موارد المساعدات الخارجيّة، ناهيك عن رفض الجمهوريّين لإكمال مسيرة دعم أوكرانيا بعد عامَيْن من إخفاقات زيلنسكي.
يومًا تلو الآخر تزداد أعداء الفقراء في الداخل الأميركيّ، حيث تشير بعض الإحصائيّات إلى وجود أكثر من أربعين مليونًا يعيشون ظروفًا صعبة ما بين الفقر والتهميش، وقد بات على لسانهم سؤال بسيط: "ألسنا أحقَّ بالأوكرانيّين من تلك الأموال؟
رَدّات الفعل الشعبيّة الأميركيّة على دعم أوكرانيا، والمواقف الرافضة للمساندة المطلقة لإسرائيل في حربها ضِدَّ غَزّة، سوف تضحي ولا شكَّ من بين أهمّ الملفات التي ستلعب دورًا مهمًّا وفاعلاً في الحدث الكبير الذي ينتظر الولايات المتحدة الأميركيّة هذا العام.
إنّه عام الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، والتي يُتَوَقَّع لها أن تكون معركة ساخنة، قد تحدّد اتّجاهات أميركا لعقود طوال، وبخاصّة إذا جرت برسم العداوات العِرْقيّة الإثنيّة من جهة، وباستحقاقات الصراعات الإيديولوجيّة من جانب آخر، ومن بعيد تطُلّ ولو على استحياء إرهاصات لشغبٍ دوجمائيٍّ قادم، لم يختفِ أبدًا من على الساحة الأميركيّة.
لا تشغل هذه الانتخابات الأميركيّين فحسب، بل دول العالم برُمّته، وذلك في ظلّ حقيقة أنّ العالم غير مرتاح من جَرّاء السياسات الأميركيّة، وهذا صحيح، غير أنّ اختفاءَها مَرّةً واحدة من فوق خارطة العالم الجيوسياسيّ، أمر كارثيّ يمكن أن يؤدّيَ إلى حقبة من الفوضى القاتلة وعلى غير المصدق أن يراجع ما كتبه مؤخَّرًا المُنظِّر اليمينيُّ الشهير روبرت كاغان عن قادمات أيّام أميركا بعد انتخابات نوفمبر 2024.
الثابت كذلك أن متغيرًا أكثر إثارة يقف على باب العام الجديد، وربّما الأعوام والعقود التي تليه، ذاك الموصول بالتقدّم التكنولوجيّ، وثورة الذكاء الاصطناعيّ، وعالم الحوسبة، وهل باتت نعمة أم نقمة على البشريّة، وهو تساؤل لم تُحسَم إجابتُه حتّى الساعة، وغالب الظنِّ أنّها في حاجة إلى وقت طويل قد أن تنجلي حقيقة الموقف.
أمّا عن الصين التي تحَدَّثَ عنها زكريا، فيبدو أنّ مشروعها القطبيّ متعثِّرٌ بعض الشيء، سيّما في ظلّ اكتشاف العالم أنّ مشروعها للحزم والطريق، لا يعدو أن يكون أداة تقليديّة للهيمنة والسيادة كشأن كلِّ قوّة قطبيّة قادمة على الطريق.
كان انسحاب إيطاليا قبل أيّام معدودات من هذا المشروع الكبير إشارة واضحة للعطب الذي أصاب السفينة الصينيّة، والتي تنتظرها تحدّيات جسيمة في مسيرتها، منها ما هو موصول ببحر الصين الجنوبيّ، وأزمة تايوان، وتطوّرات المشهد في منقطة الأندو باسيفيك.
هل يعني حصاد العام الماضي أنّ نظامًا عالميًّا جديدًا سيحلُّ في 2024؟
مؤكَّد أنّ مولد ذلك النظام يبدو متعسرًا وسيأخذ بضعة عقود قبل أن تتغَيَّر الأوضاع وتتبَدَّل الطباع ويطفو على السطح عالم آخر مختلف بأدوات وميكانيزمات مغايرة.
وحتّى يحدث ذلك فإنّ العديد من التحَدّيات تنتظر الجميع في العام القادم، مع الأمل في أن يكون عامَ خيرٍ للبشريّة مهما كان من شأن التحَدّيات والصعاب القائمة والقادمة معًا.