من أين للمرء أن يتابع تطورات المشهد الأميركي، هل من عند القرارات والأوامر التنفيذية التي أصدرها سيد البيت الأبيض في الساعات الأولى لولايته؟ أم عند المخاوف التي باتت تشمل الحلفاء قبل الأعداء بسبب توجهاته السياسية؟ وربما يتضمن الأمر المجهول الموصول بنخبته الجديدة.
يحتاج العالم إلى قليل من الهدوء لاستيعاب بوصلة إدارة الرئيس دونالد ترمب، ولهذا قد يكون من الجيد أن نلقي نظرة سريعة على أهم أركان إدارته، نائبه جيه دي فانس، رجل المراثي اليوتيوبية، كما يتضح من مذكرات حياته التي لاقت رواجاً كبيراً في الشارع الأميركي.
تبدو أهمية جيه دي فانس من كونه يمثل الرجل الثاني في هذه الإدارة، وعليه فهو دستورياً من يلي الرئيس في حال الشغور، عطفاً على أنه وثيق ولصيق الصلة بأعمال السياسة والعسكرة، الأمرين اللذين لم يتوافرا لترمب قبل مغامرته التي قادته إلى البيت الأبيض.
يمكن الجزم بداية بأن دي فانس يمثل مرحلة مهمة للسياسات الأميركية التي تنهي اليوم مرحلة من «المحافظة التقليدية»، التي هيمنت عليها تيارات اليمين الديني الشعبوي منذ تسعينات القرن المنصرم، حيث سادت رؤية المحافظين الجدد، وفكرة القرن الأميركي، لا سيما أنه وخلال فترة عمله في مجلس الشيوخ، وقف دي فانس في كثير من الأحيان في وجه المحافظين المؤيدين للسوق الحرة الذين طالما ميّزوا الحزب الجمهوري في عام 2023.
على أن انطلاقة دي فانس الحقيقية جرت من خلال عمله أول الأمر صحافياً عسكرياً مع الجناح الثاني للطائرات الحربية، خلال خدمته التي استمرت أربع سنوات، ولاحقاً تم إرساله إلى العراق عام 2005 لمدة ستة أشهر في دور غير قتالي، حيث كتب مقالات والتقط صوراً، وقد حصل على رتبة عريف، وشملت أوسمته ميدالية حسن السلوك من سلاح مشاة البحرية وميدالية الإنجاز من البحرية، وسلاح مشاة البحرية.
المرحلة الأولى من حياة دي فانس نجد تفاصيل وافرة منها في مؤلفه الشهير «مرثية هليبيلي» التي تبدو خليطاً من الرواية والسيرة الذاتية، أما حرب العراق وخدمته العسكرية فهي من دون شك حجر الزاوية في حياته الذي عليه سيُشيد بناءه الفكري ومساره السياسي.
عُدَّت تلك الفترة قمة المد السياسي للمحافظين التقليديين برئاسة جورج بوش الابن، بل التطرف اليميني المصحوب بغزوات عسكرية غير مسبوقة من أفغانستان إلى العراق، مروراً بمخططات أخرى لتغيير خرائط الشرق الأوسط لم يكتب لها أن تصل إلى منتهاها.
كثيراً ما استشهد دي فانس بخبرته القتالية خلال حرب العراق، لكن ذلك لم يمنعه من الاعتراف قائلاً: «لقد خدمت بلدي بشرف، غير أنني حين ذهبت إلى العراق رأيت كيف أنني تعرضت للكذب».
من هذا المنطلق وعبر خبرته القتالية، بدا سيناتور أوهايو المتحول من التيارات البروتستانتية إلى العقيدة الكاثوليكية، ناقداً بشكل متكرر للرئيس الأميركي السابق جو بايدن خاصة والديمقراطيين عامة من جراء دعمهم المستمر للمجهود الحربي الأوكراني، بعد أن وصل إجمالي الإنفاق الأميركي على أوكرانيا إلى 175 مليار دولار.
هل يمكن اعتبار دي فانس أحد «منظري اليمين الأميركي الجديد»، المختلف بصورة أو بأخرى عن اليمين الأميركي التقليدي، لويليام كريستول وروبرت كاغان وإيرفنغ كريستول، ومن لف لفهم؟
لسنوات عدة لعب دي فانس دوراً رئيسياً في صفوف نخبة هذه الطليعة اليمينية ذات السمات السياسية المختلفة، التي يمكن وصفها بأنها الجناح الفكري للحزب الجمهوري المؤيد لترمب، بما في ذلك الكثير من المسؤولين الموثوقين عن «مشروع 2025»، هذه المجموعة المختلطة التي تتكون من مثقفين وناشطين سياسيين، ومؤثرين عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وأصحاب مراكز فكر ذات تأثير كبير وفاعل من كل الاتجاهات الفكرية الأميركية، أولئك الذين يتمسكون بمجموعة متنوعة من أنظمة المعلومات، وغالباً ما تجمعهم أهداف سياسية واحدة.
غير أنه من الواضح أن الأفق السياسي الذي يجمع دي فانس وبقية نخبة اليمين الجديد، تتمثل في التشكيك العميق في تيار النسوية الحديثة والمساواة بين الجنسين والمعروف بآيديولوجيا «النوع الاجتماعي».
كيف يرى دي فانس أميركا؟
في أبريل (نيسان) الماضي، تحدث دي فانس لصحيفة «بولتيكو» الأميركية مشيراً إلى أن «النقاشات المثيرة للاهتمام بين اليمين المؤسسي واليمين الشعبوي، تدور حول الفرضية القائلة إن الأمور في الداخل الأميركي تسير على ما يرام، فمن ناحية يعتقد الجمهوريون المؤسسون أن الإمبراطورية الأميركية تسير في الاتجاه الصحيح، بينما يعتقد الجمهوريون الشعبويون أن الإمبراطورية الأميركية على وشك الانهيار».
هل دي فانس هو رجل اليمين الشعبوي الأميركي العائد بأميركا إلى قمة الاستثنائية التي تحدث عنها الرئيس ترمب في خطاب التنصيب؟