بقلم -فؤاد مطر
بات بعدما فاض الكيل لدى السوداني المستسلم إلى الأقدار والذي هو دائم الخشية من أرغفة لا يجدها فجأة، أو الوقود الذي ما أن يتوافر يوماً حتى يندر وجوده أياماً، أن يرفع كلمة الحق الكفيلة بوضع حد للمجادلة العقيمة التي يتسع مداها، وهي أن الصيغة التشاركية التي حدثت وبمقتضاها كان التعاون العسكري - المدني الذي أثمر طمأنينة وأجواء ارتياح عربي ودولي واحتمالات عوائد تستتبع إلغاء ديون متراكمة وجدولة ديون غير قابلة للإسقاط، هذا إلى جانب اختراق محسوب لمحرمات ارتبطت برؤية لم تأخذ واجب التوضيح اللازم... إنَّ هذه الصيغة هي أفضل مفتاح لبوابة الاستقرار للسودان المحروم من هذه النعمة منذ الخمسينات ويتقاسم السياسيون والعسكريون على حد سواء وزر هذا الحرمان.
وعندما تكون هذه هي النظرة إلى الصيغة التشاركية العسكرية - المدنية، فلأن كنه المسألة يؤكد بعض الحقائق ومنها أن الانتفاضة الشعبية التي حدثت ضد نظام الرئيس عمر حسن البشير كانت خطوة شجاعة من حيث عفويتها، إنما لولا الدخول السلس من جانب بعض العسكريين على خط الأزمة ودعمهم المتدرج للمنتفضين لكانت هذه الانتفاضة التي بدأت مثل شمعة تنير عتمة سياسية واجتماعية أبلغها النظام البشيري مداها، ستنطفئ ويتكسر الاندفاع الشعبي الذي ملأ شوارع العاصمة المثلثة وأسطح رحلات القطار الآتية من الولايات البعيدة، على أسوار المؤسسات البشيرية الحزبية وتبدأ حرب أهلية من نوع غير مألوف، يواجه فيها السوداني المعترض شقيقه السوداني «الإنقاذي». ويا ويل السودان من طول غضب السوداني عموماً ومن مفاعيل هذا الغضب.
كان العسكريون الذين اصطفوا إلى جانب المحتجين على درجة من الحكمة والبصيرة. سجلوا مواقف لكنهم لم يصدروا بلاغات وإنما بعض التوضيحات والتنبيهات عند الضرورة والخشية من فلتان الأمور، كون البلاغات أولاً وثانياً وتباعاً معناها انقلاب عسكري. وهم بهذا التصرف صانوا الحراك الشعبي وفي الوقت نفسه سجلوا صيغة معادلة موضوعية خلاصتها أن الانتفاضة من دون موقفهم كانت ستتكسر ويكرر الرئيس عمر البشير ما فعله الرئيس جعفر نميري عندما حاول الشيوعيون الانقلاب عليه عن طريق بعض ضباطهم، فكانت النتيجة فاجعة وإعدامات بعد محاكمات غير مكتملة أصول العدالة والواقع الاجتماعي في السودان، حيث إن شأن الشيوعيين في السودان كان بمثل شأن إسلاميي «الإنقاذ البشيري» مع فارق أن هذا الطيف الأخير كان رقماً أساسياً في السودان المالي والاستثماري فيما «الرفاق» الشيوعيون أقوياء عقائدياً. ولكن هذه القوة تراجعت أمام الشأن العسكري لنظام نميري وكانت تصفية أقطاب المحاولة الانقلابية عام 1971 بمن في ذلك عبد الخالق محجوب وبابكر النور وفاروق حمد الله وهاشم العطا والشفيع أحمد الشيخ. ولا يغيب عن الذاكرة مشهد أرملة الشفيع القيادية الشيوعية فاطمة أحمد إبراهيم يوم عودتها باكية إلى الخرطوم (الأربعاء 17 ديسمبر (كانون الأول) 2003) بعد ثلاث عشرة سنة أمضتها منفية في العاصمة البريطانية. دموع جديدة على زوجها الشفيع الذي كثر لوم السودانيين للرئيس نميري على إعدامه ودموع على حالة السودان وعلى حزبها الذي لم يكن حصيفاً، عندما افترض أن في الإمكان جعْل السودان محكوماً بحزب شيوعي. تلك دراما سياسية وثقتها في حينه بكتاب «الحزب الشيوعي السوداني... نحروه أم انتحر».
وما يعنينا بهذا الاستحضار هو التركيز بأن البشير ارتكب الإثم الإعدامي نفسه. وهذه المرة كان الذين أعدمهم 21 ويقال أكثر. كما يعنينا من التذكير أن الطيف المدني لا يمكنه وحيداً حُكْم السودان حتى إذا كانت هنالك قاعدة حزبية عريضة وملتزمة مثل الحزب الشيوعي؛ ولذا فإن ما ينادي به الطيف المدني لا يبدو واقعياً بالنسبة إلى السودان الذي أفشل قادة الأحزاب أول فرصة حُكْم مدني أتيحت لهم بعد إسقاط نظام الجنرال الرئيس إبراهيم عبود عام 1964، حيث قضت جولات العراك السياسي بينهم على الحراك الشعبي الذي أثمر أول انقلاب مدني حزبي مائة في المائة على نظام عسكري متين الجذور ومطعم ببعض المدنيين لغرض زخرفة الحُكْم أمام العالم. وبسبب ذلك العراك الذي نشير إليه تساقطت تجربة «المدنيون يحكمون» ولم تعد الصورة الشهيرة التي انطبعت في ذاكرة السودان حاضرة، وتمثل أقطاب الحُكْم في صورة واحدة تضم الصادق المهدي وإسماعيل الأزهري وحسن الترابي وعبد الخالق محجوب والشيخ علي عبد الرحمن وفاطمة إبراهيم. ثم بدأت التجربة الثانية لنظام عسكري هو الذي قاده العقيد جعفر نميري ومعه مجموعة من الضباط الرواد الرتبة وجرت أيضاً زخرفة النظام ببعض المدنيين، فاستقر السودان بعض الشيء لكن معادلة الشراكة لم تكن مستقيمة. وهنا جاء ليكرر الأمر نفسه الجنرال عمر البشير متكئاً على الدكتور حسن الترابي الذي كان انفض عن نظام نميري. وحيث إن الترابي كان يتطلع كما قادة الطيف المدني في الانتفاضة ضد نظام البشير إلى أن يكون العساكر حماة لهم وليسوا أسياداً عليهم، فإن البشير حذف الترابي من المشهد. وها نحن أمام حالة حذف على أهبة الحدوث من جانب الثنائي الفريق عبد الفتاح البرهان والفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) للشريك المدني في حال استمرت حلقات حزبية بعثية وناصرية وشيوعية فيه تنشط بهدف التقليل من الدور العسكري، وإلى درجة المطالبة بتسليم المقادير ومنها مؤسسات أمنية إلى المدنيين. وهذا استوجب من الرئيس البرهان الإيحاء، بما معناه أن الذين يطالبون بذلك ليسوا كل السودان الحزبي بل إنهم قلة، ولذا يجب توسيع القاعدة الحزبية في الحكومة، ثم تصل الحال بالرئيس العسكري البرهان إلى التلميح بحل الحكومة الحمدوكية التي عقل رئيسها مع الثنائي البرهان - دقلو وعاطفتها مع «حركة التغيير» وتملك ورقة الدعم الدولي المالي المأمول للسودان، مقابل ورقة التطبيع الذي ارتبط بالبرهان ولم يكتمل فصولاً وعوائد.
خلاصة القول إن تطوير الشراكة المدنية - العسكرية وليس الغلبة، هو الذي يقي السودان احتمالات الأخذ بالانقلاب العسكري، واعتبار الصيغة التي تمت تندرج ضمن معادلة خير الأمور، وهي الإنقاذ للسودان من مغبة المغامرات غير المحسوبة، والإمساك بالفرص التي أتيحت دولياً لجهة الدعم مالياً وإسقاط بعض الديون ومن شأنها إبقاء الأحوال المعيشية تحت السيطرة.
ثم في انتظار اكتمال الترميم وإجراء الانتخابات تتأكد مكانة كل طيف، وتُقفل الستارة على المشهد الأخير من المماحكة التي لا تحل المشاكل المستديمة. و... الله غالب ومعين.