بقلم - فـــؤاد مطـــر
لو كان الذين باتوا من أهل السُّلْطة في لبنان بفعل فاعلين مجهولين معلومين يعنيهم ما يقال في الأوساط الشعبية عنهم من سيئ الكلام وأرذل الأوصاف، ولا يقتصر القوَّالون والقوَّالات على نماذج من طائفة واحدة، لكانوا اتخذوا وقفة مع النفس يتأملون خلالها في دوافع الذين أمعنوا تجريحاً سياسياً وشخصياً، فيتخذ هذا المرجع أو ذاك المسؤول من الخطوات ما من شأنه إطفاء المشاعر السيئة المضمون المسيئة إليه. ومثل هذه الخطوات اتخذها في تاريخ الحكم والحكام كثيرون ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر جنرال لبناني هو اللواء فؤاد شهاب وجنرال سوداني هو المشير عبد الرحمن سوار الذهب والجنرال الفرنسي شارل ديغول، واستبق جنرال لبناني آخر هو اللواء الرئيس ميشال سليمان ما قد يلقي ظلالاً على سنواته الرئاسية المثقلة بالهواجس الضميرية فبدأ ومن قبل أن يحين أجل الولاية الأولى السداسية السنوات يهيئ النفس للمغادرة كريماً غير مثخن بأقوال كتلك التي باتت حديث الناس عن أهل السُّلطة الثنائية الراهنة ويعالجها صاحب المنصب بأوامر الملاحقة التي ليست علاجاً لواقع الحال المعيشي والصحي والنفسي الذي تجاوز بكثير الشكل المزري.
وتصيب المرء الدهشة من هذا المرجع أو ذاك، أو تحديداً من المرجعيْن معاً عندما لا يسائل كل منهما نفسه: أي إساءة ألحقناها بلبنان وطناً وشعباً؟! والإساءات أكثر من أن تُحصى وهي ظاهرة للعيان إنما لمَن لا يُغمض العينيْن ويسد الأذنيْن.
المألوف في عالم الحُكْم والذين يتربعون على درجات سلالمه وبالذات من تضعهم الأقدار أو الترتيبات الإقليمية والدولية في القمة، أن يأنسوا بالمستشار الذي يسدي النصح خصوصاً في الأمور الشائكة أو عند استباق اتخاذ القرار أو في مناسبة اضطراب مفاجئ ناشئ عن أثقال من التدخل في شؤون الوطن يأتي من جار حاسد أو مدّعي صداقة طامع. فإذا كان الذي أسدى النصح مخلصاً وأخذ صاحب القرار بما نُصح به فإن النجاة مأمونة من السقوط في جُبٍّ لا يعود الخروج منه بالأمر اليسير. أما إذا كان المستشار من طينة المداهنين لصاحب القرار الذي تلذّه الإطراءات وتؤكد أن خطأه صواب، فهذا سيقود إلى تكريس ما يعيشه لبنان هذا الكيان الذي ينغِّص الجار العدو المعتدي حدوده الجنوبية على مدى ساعات الليل والنهار ويخترق سماءه الطيران المعتدي بين طلعة وأُخرى. كما أن وطأة الجار العربي الشقيق بالتكاتف والتضامن مع حليفه الفارسي البعيد حوّلت المعابر باتجاهاتها الثلاثة ومعها المعبر الجوي الملتبس والمعبر البحري، المتشابكة المشاعر والمصالح في تسييره، إلى حالة نزف مالي وسيادي. وبدل أن يقال للمواطن من الكلام الذي يهدئ من روعه وهو يعيش في ظل استباحات يحللها أهل الحُكْم عوض أن يضعوا حداً لها ربما التزاماً بوعد أو خشية من إضرار بالعهد، فإنهم يمعنون شروداً عن لُبّ المشكلة التي تودي يوماً بعد آخر بلبنان إلى أن يصبح دولة تستعطي ووطناً يضيق بأبنائه، وبحيث تتكرر هجرات العشرينات وما تلاها من حُقب وصلت إلى الذروة بعدما عصفت حرب الآخرين على لبنان بالساحة، ثم استئثار الدولة الجارة الشقيقة بلبنان تصادر قراره وتختصر مفهوم سيادته في أن سوريا ولبنان بلد واحد بشعبيْن وتصهر بالتالي في مِرْجَل المصالح شخصيات باتت ذات شأن بفعل تغليب السورنة على هواهم السياسي والحزبي والحركي والتياري لاحقاً، ثم طغت الفرسنة على الحالتيْن معاً: اللبنانية مكسورة الجناح والسورنة المستحكمة في النفوس المتحكمة بإرادة اتخاذ القرار.
من الجائر الافتراض أن أهل الحُكْم بكبارهم وصغارهم وصغائرهم يراهنون على أن الدول التي لطالما وقفت في أيام من الشدة ماضياً مع لبنان وبالذات تلك التي رمّمت الأحوال من خلال وديعة مليارية، وكذلك الدول الكبرى التي يطيب لها لبنان ساحة رصد وترتيب أوراق وإذا احتاج الأمر تقويض مخططات، لا بد ستستدرك هذا الوطن قبل أن يستحكم به الذبول، وبذلك تعود الحيوية إلى المرافق والطمأنينة إلى النفوس وشيئاً فشيئاً يتوارى منظر المصارف التي فولذت أبوابها بعدما أطفأت مصابيح مكاتبها ونضبت صناديقها من الدولارات الأميركية وسائر العملات الصعبة. كما لا تعود الجامعات والمدارس والكليات ذات السمعة الطيبة مهددة بالتوقف حالها من حال عشرات المصالح.
مثل هذا الأمر يصبح على درجة من اليسر إذا قرر النظام الثوري الإيراني أن لبنان الوطن المستقر رئاسات ثلاثاً وجيشاً ومؤسسات، وكذلك حركات وأحزاباً وتيارات منزوعة التعصب لهذا النظام، هو ما يفيد الثلث الشيعي من لبنان الخمسة ملايين ويطمئن الثلث السُني المستهدف من دون وجه حق ويصحح مسار الطريق للثلث المسيحي بعد أن يعيد ضلعه الإيراني - السوري الهوى النظر في رؤيته وبذلك يتخلص هذا الضلع من رهان حقق مآرب أشخاص لكنه أحدث ندوباً في الخصوصية التي يتسم بها لبنان والتي تبقى في انتظار إجماع أممي على استنباط الدولة المحايدة المنزوعة السلاح علاجاً للحالتيْن الفريدتيْن اللبنانية والفلسطينية، تعزز الاستنتاج بأن الطيف الماروني الذي افترض أنه بتحالف مع الطيف السلاحي وليس الرأي العام من الشيعة يحقق للبنان توازناً واستقراراً، كما أنه بهذا التحالف يحقق بالتدرج حصر السلاح الشيعي اللبناني التملك الإيراني التوريد، وبذلك يسلك لبنان طريق الاستقرار وتصبح بالتالي العلاقة اللبنانية - السورية علاقة شقيقيْن متحابيْن متعاونيْن. لكن الذي آلت إليه الأمور أن الطيف المسيحي الماروني إياه انتهى في الحضن الشيعي عِوضَ أن تأخذ العلاقة السبيل الذي أشرنا إليه. وبذلك بات لبنان الحُكْم على الحال التي جعلت لبنان يتواصل ذبولاً. وأما الرهان الذي أشرنا إليه فإنه يبقى مثل أمل إبليس بالجنة... إلاّ إذا ارتضى الثنائي الشيعي، الآسر، والمسيحي الماروني، المأسور، الطريق الذي ينجي مما قد يكون الأعظم للبنان ولكليهما معاً.
يا ليت يتأمل الطيفان بلبنان الحُلم على نحو أوصاف كبار شعراء الأمة له، فيجعلهما يريان أن ما يمكن أن يقال أخيراً عنهما بعد الرحيل يبقى أكرم من قول العكس، ومنه ما يأسف المرء لانتشاره عبْر وسائل التواصل ويجعل المستهدفيْن ومَن يحيط بهما ينظران في وسيلة ردْع أو تأديب للفاعلين بدل النظر في إعادة تقييم للموقف تقود إلى رؤية مبهجة ومنقذة للبنان الوطن والشعب ومطمْئنة لأصدقاء هذا الوطن الذين يريدون الخير له ودعمه سياسياً ووديعياً. وبالعودة إلى ظروف في سنوات مضت تتبين حقيقة أن الحريص على لبنان يريد خيراً له وأن الطامع به ملعباً ينتهي شراً به.
وأما الذي يستوقفنا من أبيات شعراء الأمة فقول أمير الشعراء أحمد شوقي: «لبنان مجدك في المشارق أول... والأرض رابية وأنت سنامُ»، وقول الشاعر العراقي معروف الرصافي: «أرى الحُسْن في لبنان أينع غرسْه... وقارب حتى أمكنَ الكف لمسْه».
كما يا ليت لا تشتد المكاره الراهنة بلبنان بدءاً ببيروت التي نحزن، كما الذين زاروها وعرفوها في زمن مضى وبالذات إخواننا في السعودية ودول الخليج، على حالها، ونتذكر قول محمود درويش عنها «بيروت قصتُنا... بيروت غصَّتنا»، وكما استباقاً قول الشاعر إلياس أبو شبكة عن الوطن المستباح راهناً: «أيعيش في لبنان حر... ومعيشة الأحرار قهر. اليوم قد عبثت به... نُوب وجار عليه دهرُ. وطوى الزمان كتابه... هل بعد ذاك الطي نشْرُ».
ولن تصل المكاره إلى منتهاها في حال استُعيد الوعي وقال الطيفان الممسكان بخريطة الوطن الذي يزداد ذبولاً: يا الذين إذا أسديتم النصح، تقدموا وقولوا ما يمكن أن يُصلح الحال ويجبر لبنان المكسور... الذي كسرناه. فنحن نتطلع إلى آخرة كريمة توجزها المفردات الروحانية: مَن يعمل لآخرته خيراً يره ومَن يعمل لدنياه شراً يره.