بقلم -فؤاد مطر
وحده من دون سائر أهل الحكم في العالم العربي يتعامل رئيس الجمهورية اللبنانية الحالي الجنرال ميشال عون مع موضوع بأسلوب ليس من حقه التأجيل ولا التعطيل، كون هذا الموضوع من حقوق الرعية على الراعي الذي هو رأس السلطة. وهذا الموضوع هو رئاسة الحكومة التي مهمتها إدارة شؤون البلاد وتأمين متطلبات العباد، على النحو الذي يبقيهم ضمن دائرة السلامة والأمان.
الأسلوب الذي ليس من حق رئيس الدولة هو هذا «البزار» الصفقاوي الذي بات سمة الرئيس، وما يتسبب به من مماطلة. وهذا عائد إلى أن صفة الجنرال وواجباته وأصول إدارته للمنصب الذي يشغله هي المستحكمة في تعامله مع مَن يقع عليه بموجب الاستشارات أمر التكليف بتشكيل حكومة هي في واقع الحال كيان إداري، قبل أن يكون سياسياً يؤدي أعضاؤه، من رئيس الحكومة إلى سائر الوزراء، مهامهم خارج حكاية التصنيف، هذا سيادي درجة أُولى، وهذا غير سيادي مجرد رقم في لائحة، وأن يكونوا أيضاً عند حُسْن ظن الرأي العام فيهم، بحيث لا يقال كما بات حاصلاً، هذا الوزير أجرى صفقة، وهذا دخل بصفته من أصحاب الضمير والحس الوطني، فبات بين غمضة عين والتفاتتها وقد تغيرت الحال إلى ثراء مفاجئ وعقارات متعددة الملكيات الشكلية وشراكة في مصارف وطائرة خاصة.
وحدهما الجنرال فؤاد شهاب والجنرال ميشال سليمان خفّفا كثيراً من جنراليتهما في التعامل مع الموضوع، بعدما خلعا الزي العسكري وما على الصدر من أوسمة وميداليات، وتعاملا مع مَن يتولى رئاسة الحكومة على أنه شريك المثلث الرئاسي، وأن الأول ليس أهم من الثاني ومن الثالث إلا بما ييسر أمور إدارة البلاد، وليس تعطيلها.
ربما سبب العلة في ذلك أن «اتفاق الطائف» لم يأخذ في الاعتبار أن حزبية الذين يتولون الرئاسات الثلاث من شأنها تعطيل الدولة كياناً وشعباً وبالذات إذا كان الرئيس الأول مسكوناً وهو في سدة الرئاسة بمصالح حزبه. والقول إن النظام الديمقراطي يتيح المجال أمام هذا صحيح لو أن النظام اللبناني ديمقراطي فعلاً وأخلاقاً وممارسة حيث الحزب الرابح كما الخاسر واجبهما مقدس للوطن والشعب، وليس عبارة عن مطايا لآخرين. ونقول ذلك على أساس أن رئيس لبنان لو كان على الحياد، وليس مسكوناً بأمر حزبه، فضلاً عن أنه مسكون أيضاً بتقاليده العسكرية كجنرال، لما كان يتصرف مع نجيب ميقاتي المكلف تشكيل الحكومة التي مضى على تعطيل قيامها بضعة أشهر من الويلات والمشاحنات والحرائق والكوارث والخيبات، بمفهوم نفِّذ ثم ناقش أو نفِّذ ولا تناقش، وإذا لن تفعل ذلك تنصرف، هذا ما قاله المستشار بلسان سيد القصر مخاطباً الرئيس المكلف الكاظم الغيظ المتقبل الاستهانة على مضض المعتذر في الفصل الأخير من المسرحية المأساة - الملهاة سعد الدين الحريري، مع أن ردّ الجمائل بين القوم جزء من أخلاقيات التعامل. أليس سعد الدين الحريري حسم أمر اختيار الجنرال عون رئيساً للجمهورية وعلى نحو ما سهَّل والده أمر استعادة الجنرال من الملاذ الفرنسي.
ويبقى من الجائز لكاتب مثل حالنا تسجيل نقطة نظام في شأن هذا الأسلوب بالنسبة إلى أمر في منتهى البساطة والواجب حسْمه، أي قيام حكومة لبلد تعصف به أعتى الرياح، ولا يمارس الرئيس مرونة، وهو الذي لا تنقصه حذاقة تغيير المواقف بنسبة 100 في المائة، وأستحضر لنقطة النظام تلك، وبما يؤكد تسجيلها، عبارات سمعناها ونشرناها للرئيس ميشال عون الجنرال في مثل هذا الصيف الحارق قبل 32 عاماً، وتحديداً بتاريخ 17 يوليو (تموز) 1989. سألناه يومها؛ كيف يصف علاقاته مع العراق، ورأيه في النظام السوري؟ وأجابنا: «العلاقة مع العراق ممتازة جداً. علاقات أخوية بالفعل، العراق يريدنا أن نستعيد استقلالنا وشخصيتنا وسيادتنا. وهو يقف معنا سياسياً وبجرأة. واشنطن تسهِّل بلْع وتقاسم لبنان بين سوريا وإسرائيل. ممنوع الكلام مع سوريا إلا عن انسحابها، ولا لقاء قمة بعد الآن في الشام» (مجلة «التضامن» - لندن).
هذا الكلام بات يقول الرئيس نقيضه، وبات حليف الرئيس يقول في حق مرجعية وطنية بامتياز، هو البطريرك الراعي، كلاماً في غاية الإساءة، رداً على رأي وطني في قمة الوعي والمسؤولية، ويحاول الطيف المحلق في فضاء الرئيس البحث بمشقة عن كلمات تخفف من تداعيات تلك الإساءة. وما نقصده من ذلك أن رئيس الجمهورية الذي مارس الاستدارة بنسبة 100 في المائة، وهذه مواقفه، شاهد على ذلك، بعدما بات رئيساً تتكئ رئاسته على كتف حزب أقوى من الدولة التي هو رئيس جمهوريتها، قادر إذا أراد أو أريد له أن يسدي إلى الشعب اللبناني الذي تعطلت مقومات الاعتراض الحاسم عنده، خدمة تسهيل قيام حكومة في لبنان، يخفف مجرد قيامها من الانحدار المتسارع للدولة، هذا إذا استعصى أمر اجتراحها معجزة تقديم الحلول الاجتماعية قبل السياسية.
لكن الجنرال والآمر ينتظر المكلَّف الذي يقول؛ حاضر سيدي مع أداء التحية. ولقد دخل تأخره عن هذا الواجب السنة الثانية. لا سامح الله الذين يزينون له هذا التعامل مع لبنان الوطن والشعب.
في الزمن الغابر تساقط مجد الأندلس وعصورها العربية الزاهية لأن ولياً للأمر لم يحافظ على ذلك المجد نتيجة رداءة حُكْمه، فكان القول الذي قالته الأم المصدومة «عائشة الحرة» بالابن «الغالب بالله» يصلح لكل حالة تساقُط أمجاد وطنية، ويتجسد في عبارة «ابكِ كالنساء على مُلك لم تحافظ عليه كالرجال». وفي لبنان سيكون الباكون، إلى درجة العويل، كثيرين. فقد أضاعوا لبنان... وأي وطن أضاعوا. وأما الطيف المتباكي فمن نسيج أوجزه المتنبي القائل؛ إذا اشتبهت دموع في خدود... تبيَّن من بكى ممن تباكى.
والله السميع الرقيب الحسيب.