بقلم - فـــؤاد مطـــر
هذا المشهد لشيوخ قبائل ليبيا الذي رأيناه في رحاب الرئيس عبد الفتاح السيسي، يوم الخميس 16 يوليو (تموز) 2020، وحديثه المتقن المفردات، بحيث يحقق المنطلق القومي والأخوي والأمني، بما يقطع الطريق على أي حساسيات، وفي الوقت نفسه تتساوى المنطلقات بين قدرة الواجب المصري وسلاسة التجاوب وسيادة القرار القبائلي الليبي مع تلك القدرة، رأيناه قبل سبع عشرة سنة في رحاب «قصر الشعب» في دمشق، عندما استقبل الرئيس بشَّار الأسد وفداً من عشائر العراق، يضم أكثر من 60 ممثلاً للمجتمع العشائري الراسخ الجذور، كما القبائلي في ليبيا وبعض أقطار الأمة، وحيث البوادي كثيرة شاسعة. لكن ما أبعد جوهر مشهد الحاضر المصري - الليبي عن مشهد الأمس البشَّاري - العراقي!
زمنذاك، كانت المعاناة العشائرية العراقية قريبة المنطلقات من المعاناة القبائلية الليبية في أيامنا هذه؛ ضيق من الذي أصاب الوطن المنزوع السيادة بنسبة مقلقة، حيث اصطفت أطياف عراقية كثيرة إلى جانب الوجود الأميركي، ولم تعد هنالك حكومة في العراق تمثِّل كل شرائح المجتمع. ويكفي تدليلاً على عمق الجرح في النفس الوطنية العربية قول حاكم العراق بول بريمر، في اليوم نفسه، في تصريحات بثتها فضائيات عربية ودولية: «إن الولايات المتحدة ستساعد في صوغ دستور عراقي مؤقت يعكس القيم الأميركية، ويؤدي إلى قيام حكومة جديدة»، مؤكداً أن قوات التحالف لن تغادر الأراضي العراقية حتى بعد نقل السلطات إلى حكومة عراقية مؤقتة في يونيو (حزيران) 2004 «بل ستبقى بعض الوقت للمساعدة في ترسيخ الاستقرار، على أن تتحدد ترتيبات تمركزها في هذا البلد بموجب اتفاق ينبغي التوصل إليه قبل مارس (آذار) مع مجلس الحكم الانتقالي».
في ذلك اللقاء العشائري في دمشق، أكد الرئيس بشَّار حرص سوريا على «بذل كل جهد لتخفيف المعاناة عن الشعب العراقي الشقيق، ومساعدته على تعزيز اللُّحمة الوطنية من أجْل التوصل إلى إقامة حكومة وطنية تمثِّل مختلف شرائح الشعب. كما تريد مساعدة الشعب الشقيق من أجْل تحقيق الاستقرار والأمن في العراق، واستعادة البلد الشقيق سيادته كاملة، بحيث يكون هو الذي يقرر شؤونه بنفسه».
وما لم يقله الرئيس بشَّار عن الوجود الأميركي في العراق الذي استحوذ بشرعية المعارضة العراقية التي أسقطت بالذراع الأميركية واللسان الإيراني الهوى النظام البعثي، قاله وزير الدفاع زمنذاك، العماد أول مصطفى طلاس، الذي وصف القوات الأميركية في العراق بأنها قوة احتلال «وإننا نشعر بقلق من وجود هذه القوات على حدودنا، ومن نتائج الحرب على شعوب المنطقة».
الوجود الأميركي موضوع شكوى العشائر العراقية في حضرة الرئيس بشَّار هو قريب الشبه بالوجود التركي الذي بسببه يمم شيوخ القبائل الليبية شطر الجارة مصر، عملاً بقاعدة الجار للجار، عِلْماً بأن هذه القاعدة غير موضع احترام من جانب تركيا مع العراق ومع سوريا، قبل ليبيا.
بصرف النظر عما انتهى إليه أمر انتخاء شيوخ العشائر العراقية للرئيس بشَّار، والانتخاء الراهن بعد سبع عشرة سنة من جانب شيوخ القبائل الليبية للرئيس السيسي، بأمل وضْع حد لهذا الهلع الإردوغاني الذي يباري الهلع الإيراني أو يبارزه، بمعنى استلهام دوره المؤذي للجار العربي، فإن أهمية الخطوتيْن الليبية بعد العراقية تكمن في تأكيد حقيقة بدهية أساسية، وهي أن الأخ لأخيه، جاراً كان في محنة أو جاراً يحتاج إلى نصح يضعه على طريق الهداية في الاتجاه المستقيم. كما أن الخطوتيْن هما -إذا جاز القول- مجرد لفت انتباه من جانب شريحة في المجتمع العربي برسم أهل القرار بأن يواجهوا الأجنبي الغريب المتدخل في شؤون الأخ القريب، بإقناع هذا الأخ بأهمية تنقية الثوب من شوائب تندرج إما وفق رهانات، والرهان عادة مخاطرة، وإما نتيجة خطأ في التقدير، ودائماً هنالك تصحيح ما دام هنالك خطأ.
وتبقى ملاحظة أساسية، وهي أن للانتخاء مواصفات في من يُنتخى به. وهنا، وفي الظروف البالغة التعقيد التي يعيشها النظام البشَّاري، نرى أن الذي قاله أمام شيوخ العشائر العراقية، فيما يخص أحوال بلدهم، يعيشه الشعب السوري منذ أحد عشر عاماً. ففي ظل عهد رئاسته، استبيحت السيادة السورية، وحدث من جانب النظام والحليفيْن الروسي بعد الإيراني أن بات ثلث الشعب السوري في حالة لجوء أو نزوح، كما بات الوطن السوري ساحات يصول عليها التركي ويجول الإيراني كما يحلو له التصرف، ويحتكر الحليف أجواء الساحة العروبية العريقة وشاطئها. ولذا هنالك حاجة من جانب الرئيس بشَّار نفسه لكي يطلب من الجمع العربي ما طلبه شيوخ عشائر العراق منه قبل سبع عشرة سنة، أتوا يشكون السيادة المنقوصة، والقرار المُصادر، والشتات الذي طال أمده، والسمعة التي تتآكل. وحتى إذا كانت القيود ثقيلة، والارتهان في أعلى درجات عدم القدرة على التصرف، فإن فك هذه القيود لا يعود صعباً، خصوصاً إذا جاء العلاج على النحو الذي عبَّر عنه الرئيس السيسي أمام شيوخ القبائل الليبية، من خلال إيحاءات عسكرية ومفردات أخوية وروح قومية وأحاسيس وطنية، ووضْع مضامين كل هذا التعبير ضمن إطار سيادة الوطن، وحصر القرار في أهل الدار.
محنة بعض الأوطان متنقلة، ولهفة القبائل تذكير لتنفع الذكرى. وفي انتظار الانتفاضة العربية الأهم... انتفاضة قبائل اليمن، لكي يعود سعيداً مستعيداً شرعيته، متخلصاً - بإذن الله - من القبضة الإيرانية، كما خلاص آتٍ - بإذن الله - لليبيين من القبضة الإردوغانية.
وكل أضحى والأمتان نحو الأفضل والأهدأ.