بقلم - عبد الرحمن شلقم
الشمال الأفريقي بدأ تكوينه الاجتماعي والسياسي مشتعلاً، وفي فترات صمت النيران ينكفئ لهيبها إلى جوف الأرض، ويجوس في أعماق النفوس غضباً متحفزاً في التعامل الفردي والجماعي. قرب هذا الشمال الأفريقي من أوروبا جعله عملياً جزءاً من جنوبها، وكانت الحروب في حلقات الدهر كأنها موجات المد والجزر بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط.
الاستعمار كان من البضائع التي تبادلها أهل الضفتين مبكراً، من الإغريق إلى الرومان والإسبان والفرنسيين والإيطاليين وزحف العرب إلى شبه القارة الإيبيرية. إخراج كل واحد من المسيطرين منذ أقدم القرون كان بقوة جللها العنف والدم وحداها صوت الأديان. المسلمون خنقتهم محاكم التفتيش بعد هزيمتهم في الأندلس، والإيطاليون الفاشيون الذين أعادوا رسم خريطة ليبيا بلون الدم، وجعلوا من القتلى في معارك التحرير ومن المعتقلات مصانع للجثث، وكانت الجزائر حلبة صراع دامٍ قُتل فيه الملايين بسلاح المستعمر الفرنسي في معركة تحرير غير مسبوقة في العالم.
تلك كانت ملاحم الدم والعنف الكبرى التي غاصت بذورها مبكراً في ضفة شمال أفريقيا الممتدة من ليبيا إلى موريتانيا. تلك البذور القديمة الحمراء لم تتوقف عن رفع رؤوسها من الأرض لتكون أشجاراً من الاهتزاز العنيف سياسياً واجتماعياً وعسكرياً. بعد موجة الاستقلالات التي بدأت في خمسينات القرن الماضي، أعاد بعض السياسيين وشرائح من النخب، الأناشيد والخطب التي غنت مبكراً معزوفات الوحدة الحلم الذي نبت قبل الاستقلال بعقود بين بلدان المغرب العربي. بعد استقلال الجزائر بسنة واحدة نشبت حرب الرمال بين المملكة المغربية وجمهورية الجزائر الوليدة. قبل ذلك اشتعلت نار دبلوماسية بلون أصفر خافت بين تونس المحتفلة باستقلالها، وتحولها من حكم البايات إلى النظام الجمهوري.
في احتفال كبير حضره السفراء المعتمدون بتونس، هاجم زعيم البلاد الجديد الحبيب بورقيبة الأنظمة الملكية، فانسحب السفير الليبي، واشتعل الغضب الليبي الرسمي، لكن الملك إدريس السنوسي رش ماء صبره على لسان النار البورقيبية. استقلت موريتانيا تحت اسم جمهورية موريتانيا الإسلامية، لكن الاعتراف بها رسمياً من جاراتها وشقيقاتها المغربيات وبعض أخواتها العربيات، لم يكن ومضة التهنئة السريعة إلى الوليد الجديد الذي ينشر خيامه على ضفاف المحيط الأطلسي ويترنم بشِعر المعلقات، وهو يحدو إبله في صحراء ترصعها بيوت الشَعر. منذ بداية عقد سبعينات القرن الماضي، تعالت أصوات الوحدة بين أقطار الشمال الأفريقي، ولكن ضربات الخلاف كثيراً ما كان صوتها أعلى ولم يغب عنه دخان النار. محاولات انقلابية في المغرب بادرت الحكومة الليبية بإعلان تعاطفها معها، وتموجت العلاقات بعد ذلك بين البلدين بين العداء وإعلانات الوحدة، وكان الحال كذلك بين ليبيا وتونس.
حبل العلاقة بين الجزائر والمملكة المغربية، غُزل بخيوط القطع والوصل مبكراً. هذا الشمال الأفريقي كان دائماً السجادة التي يصنع ألوانها صخبُ الزمن والرؤوس. في 17 فبراير (شباط) 1989 تأسس بمدينة مراكش المغربية كيان جديد مؤلف من خمس دول، وهي: موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا تحت عنوان اتحاد المغرب العربي. بقي الاسم وغاص الجسم في غياهب جيولوجيا شمال أفريقيا يعيش التاريخ في أحشاء طبقاتها، ويتنفس الغضب في رئة طبقاتها فتنفلق الزوابع الجامحة، وذلك هو الوسم الخالد الذي يوحد الجسم الجغرافي الممتد على ضفاف المتوسط، ويرسل نظرات أحلامه إلى الضفة الأخرى اللامعة بالأضواء من المتوسط، وكذلك أبناءه عبر البحر بالقانون أو بمغامرات بدونه.
اليوم ليبيا يهزها صراع لا يصمت إلا لكي يرتفع صراخه بالحديد والنار، وتستمر حلقات العراك بين ميليشيات السلاح وميليشيات الكلام فوق الأرض وموائد الاجتماعات، وتونس الخضراء ما زال الشعبُ فيها يريد الحياة، لكن القدر لم يرسل استجابته بعد، ما زالت تترجرج بين ثورة الياسمين ومعاناة العاطلين وأنفاس الآملين المنتظرين.
البلدان الكبيران في جسد الاتحاد الكبير المغرب والجزائر، لا تنقطع بينهما صفقات القطيعة إلا كي تعود، ولا أحد يدعي أنه يمتلك القدرة على قراءة سطور القادم الذي ما زال أمام كير الحداد. موريتانيا القريبة البعيدة حباها الله بآلة تعزف مواويل الصبر ترافق أصوات المليون شاعر. قالوا قديماً: المعنى في بطن الشاعر، فهل ستكون موريتانيا الهادئة هي بيت الشَعر والشِعر الذي يبدع قصيدة العقل التي تصنع الدرع المصنوعة من قافية جديدة، لها محيط أطلسي يتجاوز بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي؟ لم نعد نأمل في الكلمات الضخمة والشعارات الهائجة من اتحاد واندماج، أظن أن هذا الجيل في منطقة المغرب العربي غير الكبير، صار يأمل فقط في حسن الجوار بين أقطاره التي تهزها زوابع الخلاف التي سكنت في تجاويف وجوده منذ قديم الأزمان، وكل الأمل اليوم ألا تنتفخ الزوابع في بطن كير الحداد، وألا تكون المكواة في النار، ولتسرح العير في صحرائها الممتدة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط وعلى امتداد المحيط الأطلسي.
الجغرافيا رقعة فيها من الأسرار والغرائب ما يستحق البحث فيها والتأمل. شمال أفريقيا التي جعلتها الطبيعة الجار الأزلي لجنوب أوروبا، وتشاركا وتفاعلا لأمد من الدهر سلماً وحرباً وحضارة، اليوم هناك بينهما فج كبير جداً من الانفصال في الحسابات وقوة الرؤية، وإتقان التعامل بين المكونات الإنسانية فوق رقعة جغرافية شمال أفريقية، تربطها وشائج الدم والدين واللغة والتاريخ والثروات الطبيعية. الزوابع إذا غاصت في الرؤوس تتحول إلى قوة جامحة تعصف بكل وشائج القربى وتصبح أجساد الأوطان من ذوي الاحتياجات الخاصة.