بقلم - عبد الرحمن شلقم
الزمن الأميركي بتوقيته الخاص، لا يغادر جغرافيا البشر على امتداد العالم. تابعت الآذان والعيون عبر وسائل الإعلام المختلفة الحدث الذي هزَّ الولايات المتحدة الأميركية، إثر مقتل شاب أميركي أسود تحت ركبة شرطي أبيض. قتل الشرطة في أميركا أشخاصاً مشتبهاً بهم من البيض والسود، لا يشكل خبراً صادماً؛ إذ يتكرر بلا توقف. لماذا هذه المرة اهتزت أميركا بكل ولاياتها وألوانها غضباً لمقتل شاب أسود مقابل عشرين دولاراً، قيل إنَّها مزيفة دفعها لبقال؟ ردود الفعل الغاضبة تحولت إلى موجة عالمية حملت عنوان مواجهة العنصرية والكراهية. هناك ما هو قديم وما هو جديد فيما حدث وردود فعله. الولايات المتحدة منذ تأسيسها كانت العنصرية صفحة في كيانها. الحرب بين الشمال الوحدوي والجنوب المنعزل العنصري، تركت أثرها في تكوين الهوية الأميركية التي ولدت بعد الاستقلال عن بريطانيا. الهنود الحمر السكان الأصليون للقارة الجديدة جرى ترتيب وضعهم في محميات خاصة لهم وبقوا خارج دائرة الفعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أما مجموعات السود الكبيرة التي جلبت قسراً من القارة الأفريقية كآلات للعمل في المزارع والمصانع، فقد بقيت بعد الاستقلال وقيام الدولة الجديدة، تكويناً لا أثر ولا تأثير له في منظومات المجتمع الجديد. فرَض وضعاً عنصرياً طال كل مفاصل الحياة. رغم الفصل العنصري وجدت الأقلية السوداء ثقوباً تسربت منها إلى صفوف التعليم والتدريب، وكذلك الأنشطة المهنية. تنامت المقاومة للميز العنصري مع بداية القرن العشرين، وكان المنعطف الكبير مع ثورة القسيس مارتن لوثر كنغ التي كان شعارها، «عندي حلم». كان كنغ هو المهاتما غاندي الأسود، وقد نجح في إشعال الوعي بين الأميركيين السود، واندفعوا إلى تحطيم القواعد والتقاليد التي تكرس الفصل العنصري إلى أن تهاوت بالكامل في منتصف ستينات القرن الماضي. مارتن لوثر كنغ كان ضحية تلك الثورة وبطلها مثله مثل المهاتما غاندي. الحلم دائرة أمل بين الحق والحقيقة. الحرية حق لا جدال فيه، والمساواة بين بني البشر كذلك بغض النظر عن الدين والعرق. المواطنة هي الأساس الذي تقام عليه دعائم الدولة. كان وصول باراك أوباما إلى سدة رئاسة الدولة الأميركية هو تاج حلم مارتن لوثر كنغ. العنف في الولايات المتحدة الأميركية ترتكبه عناصر من الشرطة ومن غيرها، والجريمة عادة يدفع ثمنها الجميع. القتلى من البيض والعرق اللاتيني أكثر من السود بدوافع مختلفة. المجتمع الأميركي جديد في تكوينه العرقي وثقافته ونمط حياته ومنظومة قيمه. القوة في أقصى تجلياتها. كل شيء عملاق من المباني إلى أجساد البشر، وكذلك العنف. سعة الطرق ونوع السيارات والأسواق والطرق. التدافع الذي لا يرحم الضعفاء في الحياة العامة يصنع نسق التعامل العام بين البشر. المجرم لا يرحم والشرطة أيضاً يدفعون الثمن، فكل مشتبه به هو مشروع قاتل بالنسبة لهم، وذلك ما يصب في عقولهم عند التكوين. في السنة الماضية تجاوز عدد القتلى في أميركا ألف ضحية، فلماذا هذا الانفجار العام في أغلب الولايات الأميركية غضباً على مقتل جورج فلويد؟... لا شك أن نقل صورة حية لمشهد ضغط الشرطي بركبته على رقبة الضحية وهو يختنق قائلاً لا أستطيع التنفس، حوَّلت المشهد إلى ملحمة إنسانية مأساوية مكثفة. المشاعر البشرية لها قدرة هائلة على الترميز. تحولت تلك الجملة القصيرة، «لا أستطيع التنفس» إلى لغم لا يتوقف عن الانفجار عبر مسيرات الألوف التي احتشدت في مختلف المدن الأميركية. تحول شعار العرق واللون إلى بالون ضخم يرتفع في النفوس والهتافات والفضاء. اختلط السود والبيض واللاتين والآسيويون في الشوارع والميادين، وتسابق السياسيون الإعلاميون، كل يغرس دبوسه في ذلك البالون لتندفع منه روائح الكبث والإحباط والغضب. المعاناة من الفاقة والبطالة التي ضاعفها «كورونا»، وحرارة الانتخابات الرئاسية والتشريعية القريبة القادمة، أضافت هواءً إلى البالون وزادت كمية الدبابيس، وصار الغضب عابراً للألوان والأعراق. كثير من الذين يبكون في المآتم، صراخهم ودموعهم ليس للميت، لكنها من أجل ما يعانيه كل منهم من مشاكل تحاصره في بيته أو عمله أو صحته. استدعاء التاريخ يلهب البالون في داخل أميركا وخارجها يزيده انتفاخاً. تسقط تماثيل كانت ترتفع في مدن كثيرة منذ زمن، لكن مطرقة الغضب لها ذاكرة صلبة قادرة على ضرب الحديد والنحاس والجرانيت الذي نصبه التاريخ. جورج فلويد بالون الغضب المكثف، عبر الحدود ووصل إلى قارات العالم فتدافعت الجموع في الشوارع والميادين، كل يصرخ بما ينتفخ في أعماقه من إحباط وضيق يهتف بعبارة فلويد المخنوق. تذكر الغاضبون في بلجيكا الملك ليوبولد الثاني الذي صنَّف الكونغو ملكية خاصة له، فأسقطوا تمثاله القديم باعتباره رمزاً للعنصرية.
ما حدث في أميركا وساح في مناطق كثيرة في العالم، يؤشر لارتجاج متعدد الموجات تعبيراً عن اختناق الشرائح المختنقة في بلدان قريبة وبعيدة عن منبع الاختناق. هل ستكون الانتخابات الرئاسية القادمة السد الذي يوقف انتفاخ البالون الأميركي الأسود الغاضب، أم تراجع «كورونا» وعودة سوق العمل إلى فاعليتها سيهون من جائحة الانفعال العالمي العابر للحدود؟ الفوارق الكبيرة في الولايات المتحدة، اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، تجعل ضيق التنفس سارياً في صمت وكبت. لكن قدرة العقول العلمية في مراكز الأبحاث والسياسية، وكذلك النخب المختلفة ستنكب على دراسة ما حدث، وتقوم بتعبئة القوى الفاعلة في مفاصل المجتمع لتجاوز الأحداث وتأهيل المجتمع من أجل التنفس بقوة رئة مؤهلة ورقبة لا تضغط عليها ركبة عنصرية.