الخامس من يونيو ناقوس الزمن الحارق

الخامس من يونيو ناقوس الزمن الحارق

الخامس من يونيو ناقوس الزمن الحارق

 العرب اليوم -

الخامس من يونيو ناقوس الزمن الحارق

بقلم : عبد الرحمن شلقم

الأيام حروف، والسنوات مجلدات حيَّة لا تمضي بها عواصف العمر. تضاريس تسكن مرتفعة في القلوب والعقول. أيام تحدو مسيرة العمر. شهر مايو (أيار) سنة 1967، كان حلقة الأمل التي أشعلتِ الحلمَ العربي الأسطوري. إذاعة «صوت العرب» من القاهرة، ولسانها النحاسي المجلجل المذيع أحمد سعيد، يرسم بصوته خريطةَ الزمن الرهيب. مدافع العرب ستدق قريباً أبوابَ تل أبيب، وتزحف الجيوشُ العربية لتحرير فلسطين. الرئيس جمال عبد الناصر، يطلب مغادرةَ قواتِ الأمم المتحدة الأراضيَ المصرية، ويقرّر غلق مضايق تيران أمام الملاحةِ الإسرائيلية، والملك حسين يطير إلى القاهرة ويوقّع اتفاقيةَ دفاع مشترك، مع خَصمه الشقيق الرئيس جمال عبد الناصر. كنت في السنة الأولى الثانوية بمدرسة سبها، عاصمة الجنوب الليبي. كان بيتُنا قريباً من القسم الداخلي، حيث يتجمَّع طلبة الجنوب وسرت في المدرسة الإعدادية والثانوية ومعهد المعلمين. يتجمَّع عدد كبير من الطلاب في بيتنا نتابع «صوت العرب»، مبتهجين ونحسب ساعات العد التنازلي لبداية حرب تحرير فلسطين. الرئيس جمال عبد الناصر تحدَّث في مؤتمر صحافي عالمي كبير، أعلن فيه استعداد مصر للحرب، من أجل إعادة الوضع إلى قبل سنة 1948. بعض هؤلاء الطلبة التحقوا بالكلية العسكرية للضباط ببنغازي في ما بعد، وانضمَّ بعضهم إلى حركة الضباط الوحدويين الأحرار الذين استولوا على السلطة سنة 1969. اكتظَّ البيت بالشباب المتحمسين المهللين، ولا يمكن أن أنسى الأخ عبد القادر الزروق بنظارته الطبية السميكة وهو يهتف: «الله ينصر عبد الناصر». في صباح يوم الخامس من يونيو (حزيران)، زمجر صوتُ أحمد سعيد في الراديو، يزفُّ البشارةَ التاريخية الأسطورية الكبرى: قواتنا المسلحة تندفع نحوَ تل أبيب، وطائرات العدو تتساقط بالعشرات. الفرحة كانت أكبرَ من قلوبنا وأصواتنا. زرنا والدي وكانَ مريضاً بمستشفى سبها. رافقنا بعض الزملاء. كان جالساً مع بعض أصدقائه. هو آنذاك متصرف براك الشاطئ. بشرناه ببداية الحرب لتحرير فلسطين. أطال النظرَ إلينا جميعاً في صمت، ثم ابتسم وقال: «من سيحررها، الضابط جمال عبد الناصر؟!». كانت قولته ضربةَ إحباط أخجلتنا أمام زملائنا المبتهجين بقرب تحرير فلسطين. ودّعنا الوالد والخجل يعمم رؤوسنا. عدنا إلى البيت المزدحم نتابع رشقات أحمد سعيد النارية من «صوت العرب». في اليوم الثاني اقترح أحد الإخوة أن نستمعَ إلى «إذاعة لندن». بدأت الأخبار القاتلة تأتي. الجيش الإسرائيلي احتل سيناء، بعد تدمير سلاح الجو المصري على الأرض، والجيش الإسرائيلي يتقدم في الجولان والضفة الغربية. قام عبد القادر الزروق بتكسير جهاز الراديو، ولم يتوقف عن البكاء. الضربة القاضية يوم 9 يونيو عندما اعترف الرئيس عبد الناصر بالهزيمة وقدم استقالته.

زرنا المرحوم والدي بالمستشفى، لم نتحدَّث نحن عمَّا حدث. لكنَّه قال: «الحمد لله، كنت أتوقع أن يدخل اليهود إلى القاهرة، فنحن لا نحارب اليهود الذين نعرفهم في بلداننا، يركبون الحميرَ ويبيعون أشياء بسيطة رخيصة. اليهود في فلسطين اليوم، هم من نخبة أوروبا العسكرية».

سنة 1982 كنت وزيراً للإعلام في ليبيا. زارنا أحمد سعيد، وقدَّم لي مذكرة تحوي مشروعاً لإذاعة مسموعة، تدعو إلى البحث العلمي، وتطوير مناهج التعليم، وتأسيس مشروعات صناعية، وتشيع القطاع الخاص وتطوير الاقتصاد في البلدان العربية. أحلت المذكرة إلى القيادة. وجاء الرد: نريدها إذاعة تتبنَّى نفس برامج إذاعة «صوت العرب» في الخمسينات والستينات. قدمت الرد للأستاذ أحمد سعيد. أطال النظر يقرأ صامتاً، ثم قال ضاحكاً: «الله... هو الأخ العقيد لسَّا في مدرسة سبها الإعدادية!».

تحدثنا مطولاً عما حدث في حرب يونيو سنة 1967. قال: «كنَّا نصدق كل كلمة يقولها الرئيس جمال عبد الناصر. اعتقدنا أنا ومن معي، أن تحرير فلسطين مسألة أيام قليلة، وأن الجيش الإسرائيلي مستحيل أن يصمد ساعات أمام الجيوش العربية. كانت البيانات العسكرية تأتينا من قيادة الجيش المصري، بها أرقام عن خسائر العدو، وأقوم أنا بإذاعتها فرحاً مستبشراً متحمساً. في مساء يوم الخامس من يونيو زارني ضابط كان زميلاً لي بالمرحلة الثانوية، وقال لي ساخراً: (أنت بتهبب إيه، دا الجيش الإسرائيلي يمكن أن يدخل عليك بعد قليل هنا في الإذاعة). كانت صدمتي كبيرة ولم أصدق ما سمعته منه. اتصلت بالقيادة وسألتهم بصراحة عن حقيقة الوضع، وكان الجواب، استمر كما أنت للحفاظ على معنويات الناس».

عداد السنوات لا يتوقف، وكأنه نبضُ قلب الزمن. لكن محطات الألم والحزن التي تقصف أبراج الأحلام، لها عدادها الخاص. إنه آلة لا يمكن لأحد أن يقترب من شيفرة سرها. لقد رحل من اطلقوا صافرات صارت ناقوساً مزمناً في داخلنا، وسكن فينا.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الخامس من يونيو ناقوس الزمن الحارق الخامس من يونيو ناقوس الزمن الحارق



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 العرب اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 العرب اليوم - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 07:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 05:57 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نجاة نهال عنبر وأسرتها من موت محقق

GMT 22:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل 3 جنود لبنانيين في قصف إسرائيلي

GMT 09:48 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيب غوارديولا يوافق على عقد جديد مع مانشستر سيتي

GMT 18:37 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن تفرض عقوبات على 6 قادة من حركة حماس

GMT 16:42 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

جماعة الحوثي تعلن استهداف سفينة في البحر الأحمر

GMT 08:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يُعلّق على فوزه بجائزة عمر الشريف

GMT 06:43 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب الطامح إلى دور شبه ديكتاتور!

GMT 11:51 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تليغرام يطلق تحديثات ضخمة لاستعادة ثقة مستخدميه من جديد

GMT 08:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد العوضي يكشف عن بطلة مسلسله بعد انتقاد الجمهور

GMT 06:02 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر

GMT 03:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تطالب بتبني قرار لوقف إطلاق النار في قطاع غزة

GMT 06:00 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتلة صورة النصر

GMT 18:42 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025

GMT 18:00 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يكشف سر تكريم أحمد عز في مهرجان القاهرة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab