كيف يمكنك أن تتعلم وتتقن فن المراوغة وازدواج المعايير والمماطلة واللعب بالألفاظ والتناقض من دون أن يرمش لك جفن؟
إذا أردت أن نتعلم كل هذه الصفات فيمكنك أن تقرأ بعناية التقرير الذى قدمته وزارة الخارجية الأمريكية إلى الكونجرس يوم الجمعة الماضى للإجابة عن سؤال: هل انتهكت إسرائيل القانون الإنسانى الدولى، خلال استخدامها الأسلحة الأمريكية فى عدوانها على غزة المستمر منذ ٧ أكتوبر الماضى؟
هذا التقرير تم إعداده لأن الرئيس الأمريكى جو بايدن أصدر، فى فبراير الماضى، مذكرة تطلب من وزير الخارجية أنتونى بلينكن الحصول على ضمانات كتابية محددة من الحكومات الأجنبية التى تتلقى أسلحة من الولايات المتحدة، كما تطلب من وزيرى الخارجية والدفاع تقديم تقارير دورية للكونجرس حول هذا الأمر.
بالمنطق والرؤية المباشرة فإن إسرائيل ارتكبت ما هو أقسى من انتهاك القانون الدولى الإنسانى. وهناك ما يشبه الإجماع على أنها ارتكبت إبادة جماعية فى غزة.
قد يكون الكلام السابق مجرد مشاعر عاطفية من بعض العرب والفلسطينيين، لكن الإحصاءات تقول إن إسرائيل قتلت ٣٥ ألف فلسطينى، وأصابت أكثر من ٧٧ ألفًا، وشردت أكثر من ١٫٢ مليون، وهدمت أكثر من نصف مساكن قطاع غزة، ودمرت معظم البنية التحتية خصوصًا الطرق والجسور والمستشفيات والمدارس ومحطات المياه والكهرباء والمزارع.
ومعظم ذلك تم بواسطة الأسلحة الأمريكية التى تتدفق على إسرائيل بلا حسيب أو رقيب،.
والأغرب أنه يوم الإثنين قبل الماضى وفى نوبة شجاعة نادرة قرر بايدن تجميد ارسال شحنة من الذخائر والقنابل الأمريكية إلى إسرائيل عقابًا لها على قرار إرسال قواتها إلى رفح، لكن الأهم أنه قال، فى تبرير قراره، إن إسرائيل استخدمت الأسلحة الأمريكية فى قتل المدنيين.
نعود إلى تقرير بلينكن، ونقول إن وزير الخارجية الأمريكى الذى زار المنطقة ٧ مرات منذ ٧ أكتوبر الماضى، قال فى المرة الأولى إنه جاء إلى إسرائيل ليس باعتباره وزيرًا لخارجية إسرائيل، بل باعتباره يهوديًا. وهو أمر غريب أن يصدر من وزير خارجية أكبر دولة، لكن المؤكد أنه قال ذلك وفى ذهنه ما قاله الرئيس بايدن أكثر من مرة أن المرء يمكنه أن يكون صهيونيًا حتى لو لم يكن يهوديًا».
فى تقرير بلينكن يمكنك أن تصادف كل شىء وعكسه، ويمكنك أن ترصد التماس الأعذار لإسرائيل. لكن مع بعض العبارات التى يمكن استخدامها للتدليل على أن التقرير موضوعى.
خلاصة تقرير بلينكن يقول إن «الخارجية الأمريكية» لم تتحقق من حالات محددة تبرر حجب المساعدات العسكرية لإسرائيل.
وأن إسرائيل لديها المعرفة والخبرة اللازمة لتنفيذ أفضل الممارسات لتخفيف الأضرار التى تلحق بالمدنيين خلال عملياتها العسكرية، والسؤال المنطقى ردًا على هذا الكلام، هو: ماذا لو لم يكن لدى إسرائيل المعرفة والخبرة هل كان عدد الضحايا سيقفز إلى ١٠٠ ألف شهيد و١٥٠ ألف مصاب مثلًا؟!
يعود التقرير إلى التناقض، ويقول: «إن النتائج على أرض الواقع بما فى ذلك العدد الكبير من الضحايا المدنيين تثير تساؤلات جوهرية حول إذا ما كانت القوات الإسرائيلية تستخدمها بشكل فعال فى جميع الحالات».
يحاول التقرير التذرع بوجود قيود على الوصول للمعلومات فى إسرائيل، وأنها لم تقدم سوى بعض المعلومات «عند الطلب» حول حوادث محددة تتعلق بقرارات الاستهداف وتقييمات الأضرار القتالية.
وفى فقرة أخرى من التقرير يقول: «ليس لدى الخارجية معلومات كاملة حول كيفية تنفيذ العمليات الإسرائيلية، خصوصًا إذا لم تشارك إسرائيل بمعلومات كاملة للتحقيق من احتمال استخدامها لأسلحة أمريكية فى انتهاء القانون الدولى الإنسانى».
يلتمس التقرير العذر تلو الاخر لإسرائيل، قائلًا: «إن إسرائيل حددت العديد من آليات المساءلة المحلية التى تركز على التحقيق ومعالجة أى انتهاكات محتملة للقانون، وأنها فتحت بالفعل عددًا من التحقيقات الجنائية، لكن أمريكا لم تكن على علم بأى ملاحقة قضائية».
كان يمكن للخارجية الأمريكية أن تستند إلى العديد من تقارير منظمات حقوق الإنسان الأمريكية والدولية، ومنها مثلًا تقرير منظمة العفو الدولية فى أواخر أبريل الماضى بأن إسرائيل ارتكبت انتهاكات خطيرة للقانون الإنسانى الدولى بالأسلحة الأمريكية.
لم يكن أى متابع جيد للعلاقات الأمريكية الإسرائيلية يتوقع أى نتيجة مختلفة لتقرير الخارجية الأمريكية، لأنه لو كان منصفًا، وقال إن إسرائيل انتهكت القانون الدولى الإنسانى بالأسلحة الأمريكية، لوجب على واشنطن أن توقف تصدير الأسلحة إليها، وهو أمر إذا تم سيصيب إسرائيل بالشلل ويكشفها بل يظهرها على صورتها الحقيقية أمام كل أعدائها.