عن سواكن الطبقة الوسطى وهواجسها

عن سواكن الطبقة الوسطى وهواجسها

عن سواكن الطبقة الوسطى وهواجسها

 العرب اليوم -

عن سواكن الطبقة الوسطى وهواجسها

بقلم - محمود محيي الدين

الانتماء إلى الطبقة الوسطى هو حلم الفقراء سعياً للانفلات من مخاوف العوز ومكاره إهدار الكرامة على أعتاب مقدمي الإعانات. كما أن الانتماء إلى الطبقة الوسطى يفضله كثير من الأثرياء تواضعاً، أو إشارة إلى عصاميتهم صعوداً إلى شرائح الدخل الأعلى، أو اتقاءً لسهام النقد والتساؤلات، وتربّص بعض السلطات. وتجد الطبقة الوسطى حافظة لقيم الاستقرار والمنافسة، والتمسك بالرغبة في التعلم والتثقف، وحامية للمجتمع من الدخائل على أنماط حياته وتهيئ له مقومات التقدم.

وفي كتابه الموسوعي عن تاريخ الطبقة الوسطى يصفها المؤرخ البريطاني لورنس جيمس بالبراغماتية والقدرة على المواءمة والتعايش، وأن هذه الطبقة مجتمعة تمثل مشروع وعبقرية الأمة التي تنتمي إليها. فأفرادها يدركون ما هو الواجب عليهم فعله ويسعون جهدهم لتحقيقه. ومن ثم يتوقعون من الدولة حمايتهم وصون ممتلكاتهم وضمان حرياتهم في الحراك لأعلى حيثما يقودهم طموحهم وتمكنهم مؤهلاتهم دون عائق، ومن هنا يأتي اهتمامهم بتعليم الأبناء سعياً لمستقبل أفضل مما حققه لهم آباؤهم.

وقد اعتاد بعض الباحثين على تعريف الطبقة الوسطى اكتفاءً بالدخل لسهولة الحصول على بياناته، بينما اعتمد باحثون آخرون على مؤشرات مركبة لتحديد الطبقة الوسطى يصعب توفير بيانات عنها بشكل منتظم. وسأعتمد هنا أسلوباً عملياً في تعريف الانتماء إلى الطبقة الوسطى باعتبار ما يتفق عليه عموم الناس من خلال استطلاع رأيهم عما يجعلهم من هذه الطبقة.

وفي مسح إحصائي، أجرته صحيفة «واشنطن بوست» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على 1280 أميركياً، كان تعريفهم لخصائص هذه الطبقة وفقاً لستة معايير: فأكد 93 في المائة من المستطلع رأيهم على أهمية وجود دخل من عمل منتظم، 91 في المائة ذكروا القدرة على الادخار للمستقبل، 90 في المائة أشاروا إلى القدرة على دفع كل الفواتير الشهرية دون قلق، 90 في المائة منهم نوهوا عن إمكانية تدبير 1000 دولار للطوارئ دون اللجوء إلى الاقتراض، 89 في المائة منهم زكّوا التمتع بتغطية تأمين صحي، بينما أشار 87 في المائة منهم إلى القدرة على التقاعد عن العمل دون شقاء. ثم تلى هذه المعايير أهمية خمسة أخرى: فأشار 73 في المائة إلى تضمن العمل إجازة مرضية مدفوعة الأجر، 67 في المائة ذكروا أهمية أن تكون هناك إمكانية مادية لقضاء إجازات، 60 في المائة أعربوا عن أهمية امتلاك مسكن، 46 في المائة ذكروا القدرة على تناول الطعام في مطعم وقتما يريدون، بينما أشار 31 في المائة إلى ضرورة الحصول على درجة تعليم عليا.

ووفقاً لهذا الاستطلاع وباعتبار تكلفة المعيشة، فالأميركيون يعتبرون أن أسرة من 4 أفراد ذات دخل يتراوح بين 75 ألفاً و100 ألف دولار سنوياً هي أسرة متوسطة الدخل.

ونستخلص أن فهم عموم الناس في الولايات المتحدة للانتماء للطبقة الوسطى يرتبط بتوفر ضمانات الاستقرار المعيشي اللائق في الحاضر والاطمئنان على مستوى معيشة مُرضٍ لهم في المستقبل. وقد أظهر الاستطلاع أن 35 في المائة فقط من الأميركيين حظوا فعلاً بتوفر المعايير الستة الأولى لديهم لتحقيق الانتماء للطبقة الوسطى. وأن من أكبر الهواجس هو تأمين فترة تقاعد مريحة، حتى بافتراض تحقيق مدخرات بسبب تغيرات سياسات الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي على مدار العمر المتوقع بعد التقاعد.

وفي استطلاعات للرأي في اليابان في فترة النمو المطرد في السبعينات والثمانينات، كان الرد السائد عند سؤال الشباب عن طموحهم في المستقبل، هو أن يكونوا ببساطة مثل سائر الناس. فقد كانت اليابان تعرف وقتئذ بمجتمع يفتخر 90 في المائة منه بانتمائه للطبقة الوسطى. ولكن في استطلاعات أحدث للرأي أجراها معهد اليابان لسياسات العمل والتدريب جاءت النتائج تعكس ما جرى للطبقة الوسطى بعد عقود عدة من النمو المنخفض والتراجع الاقتصادي. وعرّف 60 في المائة من المستطلع رأيهم الانتماء إلى الطبقة الوسطى بتمتعهم بعمل منتظم وامتلاكهم سكناً وسيارة خاصة.

وذكر 56 في المائة منهم أنهم يعيشون في مستوى معيشة أقل من الطبقة الوسطى، و6 في المائة أكدوا أنهم يتمتعون بمستوى أعلى، بينما ينطبق التعريف البسيط الذي اختاروه للطبقة الوسطى على 38 في المائة فقط. بما يعني أن الطبقة السائدة في المجتمع وفقاً لهذا الاستطلاع لم تعد الطبقة الوسطى. فتحقق افتراض الحصول على عمل منتظم لم يعد الدخل المتحصل منه كافياً للحفاظ لصاحبه على مستوى معيشة الطبقة الوسطى أو يوفر له ضماناً للمستقبل. فكان رأي 41 في المائة من العاملين بدخول منتظمة أنهم يلبّون طلبات معيشتهم بالكاد، وذكر 11 في المائة عدم قدرتهم على تحمل تكاليف الحياة رغم عملهم بانتظام.

يؤثر هذا الوضع سلباً على قدرة العاملين على الاستهلاك ويخفض معدلات الإنجاب في دولة تميل فيها التركيبة السكانية إلى الشيخوخة مع تراجع الإنتاجية والتنافسية، كما يهدد الاستقرار المجتمعي بزيادة حالة الإحباط وفقدان الرغبة في العطاء. وكانت توصية الخبراء للحكومة بالتعاون مع أرباب الأعمال والعاملين أنفسهم لسرعة اختراق هذه الدائرة المخيبة للآمال، بمراجعة مخصصات الأجور، وزيادة البرامج المخصصة لتحسين مهارات العاملين، وتطوير نظم الضرائب والمعاشات والضمان الاجتماعي لتحفيز سوق العمل.

في خلال الفترة الممتدة من قبل سقوط حائط برلين بسنوات قليلة حتى الأزمة المالية في 2008 حدثت تغيرات حادة في توزيع الدخول حول العالم بصعود لطبقات وسطى طموحة في الدول مرتفعة النمو وأهمها الصين وجوارها في شرق آسيا، ثم تبعتهم الهند. بينما تعرضت الطبقة الوسطى في الغرب إلى ضغوط وتراجع في تنافسيتها النسبية، وارتفعت حدة تفاوت الدخول بين الأغنى والأفقر. وتوالت الصدمات مصحوبة بتهافت السياسات وضعف المؤسسات في بلدان نامية عدة خاصة مرتفعة المديونية منها فاعتصرت الطبقة الوسطى بضربات متلاحقة بين معضلات الأزمات وتكاليف الإصلاح.

وفي مقال قادم سأستعرض تبعات هذه التغيرات الحادة وسبل التعامل معها، فمساندة من يعانون فقراً مدقعاً قديم الجذور يختلف بالضرورة عن سبل انتشال حديثي السقوط في هوة الفقر، والأوْلى استنقاذهم منها قبل السقوط، وقديماً أوصى العرب برحمة غني افتقر وعزيز ذل.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن سواكن الطبقة الوسطى وهواجسها عن سواكن الطبقة الوسطى وهواجسها



الملكة رانيا تجسد الأناقة الملكية المعاصرة في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 09:16 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أحمد العوضي يتحدث عن المنافسة في رمضان المقبل
 العرب اليوم - أحمد العوضي يتحدث عن المنافسة في رمضان المقبل

GMT 20:21 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

غارة إسرائيلية تقتل 7 فلسطينيين بمخيم النصيرات في وسط غزة

GMT 16:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

صورة إعلان «النصر» من «جبل الشيخ»

GMT 22:23 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

إصابة روبن دياز لاعب مانشستر سيتي وغيابه لمدة شهر

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 18:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحصل على قرض بقيمة مليار يورو من الاتحاد الأوروبي

GMT 10:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الزمالك يقترب من ضم التونسي علي يوسف لاعب هاكن السويدي

GMT 19:44 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

هزة أرضية بقوة 4 درجات تضرب منطقة جنوب غرب إيران

GMT 14:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

استشهاد رضيعة فى خيمتها بقطاع غزة بسبب البرد الشديد

GMT 14:09 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

كوليبالي ينفي أنباء رحيله عن الهلال السعودي

GMT 03:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الشرع تُؤكد أن سوريا لن تكون منصة قلق لأي دولة عربية

GMT 20:22 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

الاتحاد الأوروبي يعلن صرف 10 ملايين يورو لوكالة "الأونروا"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab