بقلم - سوسن الأبطح
تبحث عن مي زيادة في مصر، فتجد أنك تعود إلى لبنان، كذلك الحال مع روز اليوسف وبديعة مصابني، وجورجي زيدان، وآسيا داغر، وسليم ورشيد تقلا، الصحافيين الرائدين، اللذين احتفلت مصر، قبل أيام بمرور 145 عاماً على تأسيسهما جريدة «الأهرام». الصحيفة التي أراداها منفتحة، عصرية، حرة، ذات لغة رشيقة، مختزلة، لا رطانة فيها ولا سجع. شيّدا معاً، من لا شيء، نواة لمؤسسة كبرت وتفرعت وصمدت إلى اليوم. من لطيف مسارات اللبنانيين الذين هاجروا في القرنين التاسع عشر والعشرين إلى مصر التي وصفها عبد الرحمن الكواكبي عام 1899 بأنها «دار العلم والحرية»، أنهم سرعان ما تمصروا وذابوا وخاضوا غمار المعارك الوطنية والسياسية، وكأنهم أهل الأرض وناسها.
سليم تقلا ابن مدرسة تحت السنديانة، وتلميذ العبقري بطرس البستاني وأستاذ اللغة العربية، ذهب إلى مصر مليئاً بالطموح باحثاً في نهضتها عن تحقيق حلمه، فأسس في الإسكندرية مطبعة «الأهرام» التي ستصبح من أكبر مطابع الشرق، ومن ثم حصل بعد جهد على امتياز لجريدة بالاسم نفسه. وأن يسمي لبناني جريدته «الأهرام» لا «الأرز» فذلك له دلالاته الكبرى، على ذكاء الرجل وإحساسه بالاندماج والتأقلم.
بمعونة شقيقه بشارة أطلق الجريدة أسبوعية كل سبت، رغم إمكانياتهما المحدودة التي استدعت من سليم عملاً شاقاً؛ إذ كان يقضى النهار والليل يحررها ويديرها ويكتب أسماء مشتركيها. ويتولى أعمالاً «تحتاج إلى عشرة من العمال». لم يكن سليم القادم من لبنان بعيداً عن التأثيرات الصحافية الغربية، نشر أخباراً من العالم، مواد علمية، أدبية، تجارية، اجتماعية، لغوية. هو نفسه سافر إلى أوروبا، ليصبح من أوائل المراسلين العرب، الذين ينقلون الأخبار ويجرون المقابلات من هناك.
حين تقرأ بشارة تقلا يقول إن الشعار الذي بقي في الأهرام «نصب عيوننا وإليه توجهت ميولنا وآمالنا إنما هو: مصر للمصريين». ويصف البلد بأنه «جميل والأمة سمحة كريمة الشمائل، جديرة بأن يصادقها النزيل وأن يصدق فى خدمتها»، تشعر كم أن نبض العروبة، وإحساس الوحدة، كان فياضاً.
الصحيفة التي تعهدت بألا تخوض غمار السياسة، لن تبقى بعيدة عن النار، والاستعمار على أرض مصر. احترقت مطبعة «الأهرام» بسبب القصف البريطانى وخسر سليم كتباً وأرشيفاً وأموالاً، لكنه لم يستسلم. ولم يمهله القدر سوى 16 عاماً على رأس «الأهرام». يصف خليل مطران شاعر القطرين الذي كان عابراً في مصر قادماً من أوروبا في تلك الفترة، الحزن المصري على مؤسس «الأهرام»: «لم يكن فى الإسكندرية ذو مقام مسلماً كان أو مسيحياً أو إسرائيلياً إلا وقد حضر... ورأيت الناس على اختلاف الملل والنحل إخوة فى ذلك المصاب». استبقى الشقيق بشارة شاعر القطرين، ليعمل في «الأهرام» وهكذا كان، لينضم إلى كوكبة النجوم الأهراميين.
من بعد بشارة، أدارت الجريدة زوجته بتسي ناعوم كبابة، المولودة في بيروت، وتجيد الإنجليزية والألمانية والتركية، وهي التي نقلت «الأهرام» من الإسكندرية إلى القاهرة، وكان ابنها جبرائيل الذي سيتسلم من بعدها لا يزال في التاسعة من عمره.
تناوب على رئاسة تحرير «الأهرام» أكثر من سبعين سنة لبنانيون، وجدوا لهم في مصر أرضاً وموطناً وملجأ. جاء ابن يحشوش داود بركات، فعمل على تطويرها عندما تولَّى رئاسة تحريرها عام 1899، زاد عدد محرريها، أحسن تدريبهم وتدليلهم، رفع عدد صفحاتها، وسّع من انتشارها، أضفى عليها لمسات عصرية في المضمون والإخراج الفني. فأصبحت «الأهرام» في عهده واسعة الانتشار منتظمة الصدور، كذلك أدخل عليها العديد من التعديلات والتطوير، واعتبر هذا اللبناني أحد شيوخ الصحافة المصرية، وعرف بمواقفه الوطنية وشجاعته ضد الاستعمار الإنجليزي، ودفاعه عن العروبة في أرض الكنانة. فقد قضى ثلثي عمره في مصر، وثلاثين سنة في رئاسة تحرير «الأهرام». ووصفته مي زيادة بأنه «الينبوع الصامت المتدفق كل يوم يوزع خيره دون حساب لينعش العقول والنفوس».
عودة جبرائيل تقلا ابن المؤسس بشارة من فيينا بعد دراسته الحقوق والاقتصاد، مرحلة أخرى من مراحل التحديث، هو الذي عمل على توسعتها، وشراء أحدث المطابع، وتحويلها إلى الجريدة العربية الأولى. أما ابن بكفيا داود بركات الذي كان عضواً في مجلس الشيوخ المصري ونال رتبة الباشوية، فقد ظل رئيساً لتحرير «الأهرام» حتى وفاته عام 1948، من بعده جاء عزيز ميرزا، لبناني آخر، كان في بلاط الملك فؤاد، وحطّ محرراً ثم رئيساً للتحرير.
وصف طه حسين جريدة «الأهرام» بأنها تحولت إلى «ديوان الحياة المصرية المعاصرة... حفظت دقائق التفاصيل التي ما كان لنا أن نعرفها من دونها». هذا أصدق وصف يمكن أن توصف به «الأهرام»، كما أن أصدق وصف وصف به الشعر العربى القديم، هو أنه «ديوان العرب».
هذا التاريخ للبنانيين في جريدة «الأهرام»، كان مصرياً بامتياز، بمشاعر صحافييه، وكتّابه ورؤساء التحرير، ومؤسسي المطبوعة أيضا. الامتزاج الثقافي العربي الذي ينعش القلب، هو ما أسس لعلاقات لا تزال إلى اليوم، قائمة على التكامل لا على التنافس، وعلى الاحتضان بدل العراك. ومن يظن أن التاريخ لا يزن ثقيلاً على الحاضر، أو يحرره من براثن ضيق الأفق، فمراجعة هذه العلاقات المثيرة للإعجاب بين بلدين شقيقين، تستحق أن تكون نموذجاً لتعميم الفائدة وتوسيع مداراتها.