مائة سنة من القوة الناعمة

مائة سنة من {القوة الناعمة}

مائة سنة من {القوة الناعمة}

 العرب اليوم -

مائة سنة من القوة الناعمة

بقلم - سوسن الأبطح

ضربة معلم للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، زيارته لفيروز ووضعها على رأس برنامجه أثناء مشاركته في احتفالات المئوية الأولى لولادة «لبنان الكبير». كأنما فرنسا تقول للعالم، ها هو الوطن الذي رسمناه رغم مآسيه وخواره وعثراته، أنتج منارة مشعّة، يهتدي بها الهاربون من الظلام. وقل ما شئت عن وصولية المهمة الفرنسية، أو مواراة المصالح بأقنعة الفن، أو ترقيع خدش السيادة الوطنية اللبنانية ببهارج نجومية، فإن الرئيس الفرنسي احتفى بالوجه الثقافي المشرق للبنان و«قوته الناعمة» التي شكلت فرادته واستثنائيته - وتبين أن النظام المصرفي لا يصنع حضارة - في اللحظة التي فضّل فيها اللبنانيون الاكتفاء بالنعي، واجترار مسلسلات الفشل السياسي، والتذكير بالحروب المتناسلة، والبعض وجدها مناسبة لدفن الرجاء.
لكن فيروز قالت «ايه في أمل»، ومعها كتب روائيون كثر عن البعد الإنساني للحياة في الوطن الصغير في عزّ المعارك، ووقف مئات المسرحيين على الخشبات، يلعنون الطائفية، ويمجون العنصرية، ويدينون البشاعة. ولم يولد لبنان قبل قرن، فارغاً من مضمون، بل جاء محمولاً بمفكرين متنورين. فقبل إعلان الجنرال غورو عن الدولة الوليدة من مرفأ بيروت، بمائة سنة ونيف كانت مدرسة «عين ورقة»، أم المدارس في الشرق، قد فتحت أبوابها، و«عينطورة» تشحذ العقول و«الجامعة الأميركية» تخرّج طلابها وكذلك «الجامعة اليسوعية». حتى مدرسة «تحت السنديانة»، البدائية، القروية، التي عرفها كبار الكتّاب، لم تخيب ظنّ روادها. ولولا أن هذه الأرض كانت انفتاحاً وحبوراً، واحتضاناً للآخر، لما شهدنا «نبي» جبران و«أحاديث قرية» مارون عبود الذي أبى إلا أن يسمى ابنه محمداً، ويتحمل سخط الساخطين ويشد على يده، متنور آخر هو أمين الريحاني، ويرسل إليه كتاباً وقصيدة. «فيلسوف الفريكة» لم يكتفِ ببث فكره الحر، الذي تذوب الأفئدة في تسامحيته، وإنسانيته، فراح يطرق أبواب الملوك والحكام، طالباً معونتهم لتحقيق حلمة في «ولايات عربية متحدة»، ومراسلاته، كما علاقته مع الملك عبد العزيز لا تزال تشغل الباحثين.
قبل هؤلاء وبعدهم، كثر بثوا في الناس قيم الحرية، والتمرد على الطبقية، ورفض التمييز، والانقلاب على الطائفية. من بطرس البستاني إلى رئيف خوري وعمر فاخوري، وأمين نخلة، واللائحة تطول، كلهم بحثوا عن وطن يتسع لأحلامهم وتوقهم للانعتاق. بعضهم لم ينصف، ولم يدرس كما يستحق. جاء لبنان بنظامه الطائفي بسقف منخفض. ضاقت الهامات بالصيغة التي تكبّل بدل أن تحرر، تهدم بدل أن تبني، تشرذم ولا تجمع. بقيت السياسات تمزق والكتابات والموسيقات تنادي بالترفع والتعفف، وكسر القيود.
من أيام «البخيل» التي قدمها مارون النقاش في القرن التاسع عشر وبيروت تنحت في صخر المسرح المشرع على الآداب العالمية، وتبحث عن بناء الجسور وهدم السواتر. الشعراء والمغنون، من زمن عمر الزعني لا يتوقفون عن التعبير عن خيبتهم من واقع لا يشبه تمنياتهم. غنى الزعني «موليير لبنان» وشاعره اللاذع الساخر «بيروت يا حينها ويا ضيعانها، الجهّال حاكمين والأرذال عايمين والأنذال عايشين، والأوادم عم بتموت». قال هذا بعد عشر سنوات من ولادة الوطن الجديد الذي كان يتوق إليه ولم يأتِ على قياس تصوراته. اعتز بمدينته رغم الأسى لأنها «احتضنت أعرق حركة ديمقراطية، وقاومت أعتى الاحتلالات»، وترك خلفه ما يقارب ألف قصيدة، لو أنعشت واستعيدت لاستمعنا لمنجم غنائي نادر، وأشعار لا تزال طازجة كالرغيف الساخن.
قل ما شئت في فشل حكام البلد الصغير، واعترف لزكي ناصيف، وحليم الرومي والأخوين رحباني، وتوفيق الباشا، وفيلمون وهبي بعبقرياتهم، حين ألفوا «عصبة الخمسة» بهدف النبش عن أصالة الغناء المحلي، واشتغاله ككنوز تنحت وتصقل وتطعم، وتخرج حديثة شابة غضة. سفك اللبنانيون دماء بعضهم البعض بفضل خيارات خائبة لسياسييهم، لكن سلوى روضة شقير تلك البديعة الأخاذة، كانت تنحت بإصرار، نساءها الطالعات من شرانقهن، ساحرات معانقات الأفق. وهوغيت خوري كالان، ابنة الرئيس بشارة الخوري تنهي مهمتها الأمومية وعنايتها بوالديها، ثم تسافر على بساط الريح إلى نيويورك وتصبح لوحاتها مطلب المتاحف، وموهبتها عالمية الشهرة.
بموازاة الموت الذي تنشغل به نشرات الأخبار، ويهدر المحللون جهودهم في قراءة أسبابه، ثمة أعمار تفنى في بناء عالم آخر، على النقيض من جلافة ما يدور على الأرض. وأحفاد البناة الأوائل ليسوا أقل مهارة منهم، ولا أدنى تفانياً. في غياب كامل لأي دعم أو مساندة دولة، باعت نفسها للثأر والنكايات الدنيئة، ها هو روجيه عساف حكواتي الألم البارع يفتتح مسرحه «دوار الشمس»، ثم ينتقل بعد أن يتعب الرائد الكبير من الكفاح إلى المسرحي محمد أبي سمرا. ونضال الأشقر تنتزع «مسرح المدينة» من قلب الخراب، وتتوالى المحاولات لإنقاذ «مسرح بيروت» التاريخي فلا يفلح أحد. لكن البدائل كانت مسارح أخرى عديدة، بصيغ مختلفة، لأن الموت ممنوع. وحين لا يتمكن أصحاب الموسيقى البديلة من اختراق التلفزيونات الرسمية، يبزغون من الجدران بتسجيلات اليوتيوب. وشابة يانعة مثل ميشال كسرواني، تأتي بجمل إلى وسط بيروت، بعد تحايل على رجال الأمن، وتصور وهي لا تملك غير كاميرتها وطرافتها، أغنية غاية في المرح والجاذبية، مثبتة لمن لا يعجبه الأمر، أن العاصمة ملك كل مواطن لا حكر على أصحاب المناصب والأموال والنفوذ.
مائة سنة عاش خلالها الناس في استراحات قصيرة بانتظار الحرب المقبلة، مأساة بقيت تشحذ همم أصحاب المواهب الخلاقة، الذين لم يستسلموا لكنهم لم يفلحوا أيضاً في انتزاع فتيل التفجير.
فيروز نجمتنا ومنارتنا، بشخصها ورمزيتها اليوم تختصر مسار مائة سنة من إعادة ابتكار الذات. والأمل أن تكون السنوات المائة المقبلة بنكهة فيروز، لا بمرارة طعم البارود.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مائة سنة من القوة الناعمة مائة سنة من القوة الناعمة



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

1000 يوم.. ومازالت الغرابة مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:49 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد الأوروبي يؤجل عودة برشلونة إلى ملعب كامب نو

GMT 14:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئاسة الفلسطينية تعلّق على "إنشاء منطقة عازلة" في شمال غزة

GMT 06:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا لـ3 مناطق في جنوب لبنان

GMT 12:26 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت

GMT 13:22 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يناشد البابا فرانسيس التدخل لوقف الحرب

GMT 13:29 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

رئيس دولة الإمارات وعاهل الأردن يبحثان العلاقات الثنائية

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 06:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يعلن عن مكافأة 5 ملايين دولار مقابل عودة كل رهينة

GMT 14:17 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نادين نجيم تكشف عن سبب غيابها عن الأعمال المصرية

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

يسرا تشارك في حفل توقيع كتاب «فن الخيال» لميرفت أبو عوف
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab