بقلم - سوسن الأبطح
بعد سنة على انفجار مرفأ بيروت، لا تزال الأسئلة تهيم بلا إجابات شافية لأهالي الضحايا، ومن فقدوا أرزاقهم، أو نسفت أحلامهم، وخبا وهج الحياة في عيونهم. الإجابات في لبنان حول الجرائم لم تكن يوماً متاحة أصلاً، وهي اليوم أصعب، في لحظة مهددة فيها الطبقة السياسية، ببدء انهيار لعبة الدومينو في حال تداعي حجر واحد من أحجار اللعبة الجهنمية. يتوجب على من يجلسون حول الطاولة أن يتماسكوا، يتعاضدوا، ولو رأى كل منهم في الآخر شيطاناً رجيماً. فهذه المرة، يذهبون معاً أو يبقون معا. وهم يثبتون، كل يوم، أنهم أقوى من الاحتجاجات، والمجتمع الدولي، والعقوبات، وجوع الناس، وغضب الأمهات النازفة عيونهن دماً على فقد أولادهن. في نظام الرؤوس المتعددة من السهل أن يصوب كلٌ، سهام الاتهام صوب الآخر، كي تعمّ الضبابية المشهد، ويتساوى الجميع ببراءة الذئاب.
منذ الحرب الأهلية، وقبلها أيضاً، كانت المرافئ في لبنان تبيض ذهباً لمشغليها والعاملين فيها. خلال الحرب الأهلية أصبحت تبيض ماساً، لذلك تناهشتها قوى الأمر الواقع، وأمراء الحرب، ومنها دخل السلاح وباقي الممنوعات وخرج ما لا نعرف، وجنى كثيرون ثروات طائلة. وطمعاً في المزيد توالدت في ذلك الزمن الموانئ غير الشرعية كالفطر، على الشاطئ اللبناني. وبقي ميناء العاصمة هو الأساس، حيث كانت تديره منذ ستينات القرن الماضي «شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت» على رأسها رجال أعمال ومتنفذون معروفون بارتباطاتهم السياسية. وتحول المرفأ الذي لمع وهجه منذ القرن الثامن عشر، خلال الحرب الأهلية إلى موقع لنفوذ بعض الميليشيات، ولا يبدو أن انتهاء المعارك تمكن من القضاء عليه، ولو تغيرت بعض الرؤوس، وتموهت الأسماء، وزاد عدد المستفيدين.
كل المحاولات منذ انتهاء الحرب لتنظيم وضع المرفأ وإيجاد صيغة قانونية واضحة له باءت بالفشل. اختفت الشركة القديمة بحكم انتهاء العقد، وحلت مكانها «إدارة مؤقتة» أو «لجنة مؤقتة»، اكتسبت قدرة البقاء والاستمرار، بفعل النفوذ والمصالح السياسية التي لا تقاوم ولا يمكن لأحد محاربتها. هي لجنة تقاسمتها الزعامات في لبنان، ووسمتها النزاعات على تناتش قطع قالب الحلوى. إدارة لم تجلب سوى الفوضى والمحسوبية، وغياب السلطة، وتنحية الأجهزة الرقابية التفتيشية عن ممارسة عملها. قدّر الفساد في المرفأ بمليار دولار تخسرها الدولة اللبنانية سنوياً، لا أحد يعرف إلى جيوب من تذهب.
انفجار المرفأ، بصرف النظر إن كان قد حدث بفعل صاروخ إسرائيلي، أو خطأ بشري أو حتى بسبب ألعاب نارية، هو تجسيد حي لهول الفوضى الجحيمية التي وصلت إليها المؤسسات الحلوب، المحكومة بنفوذ أسياد الطوائف، وعلى رأسها المرفأ، ويمكن ذكر مجلس الإنماء والإعمار ومجلس الجنوب، وإدارات أخرى، باتت كالجراب المثقوب.. هذا مالياً. أما الأخطر فهي الكوارث المترتبة على غياب أي رؤية تنظيمية تضبط العمل، وتمنع ما يجره من ويلات على حياة المواطنين.
قد لا نعرف يوماً بالأدلة والإثباتات، لماذا رست الباخرة الملعونة المحملة بـ2750 طناً من نيترات الأمونيوم القاتلة في مرفأ بيروت عام 2013، ولا وجهتها الحقيقية، أو نيات مرسليها، ولا حتى لماذا احتفظ بهذه المواد، أو هل اشتعلت بمفردها أم أن ثمة عاملاً خارجياً أشعلها. كل من تولوا سلطة منذ عام 2013 إلى اليوم هو في دائرة الاتهام. وللحق فإن التحقيق لم يكن لبنانياً فقط. فور وقوع الانفجار، وصلت فرق تحقيقات أجنبية للمشاركة في كشف الحقيقة، على رأسها فريق فرنسي، وآخر من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (إف بي آي). هل للجهتين مصلحة في إخفاء المعلومات؟ ولماذا سلموا نتائجهم وخلاصاتهم إلى السلطة اللبنانية، التي يقولون إنهم لا يأتمنونها حتى على قروش الإغاثة؟ ثمة قضية مرفوعة في فرنسا أيضاً بسبب وجود ضحايا فرنسيين، يتم التكتم عليها، ولا خبر عن مسارها! ترى هل ضاع الجميع في دهاليز المرفأ وسراديب إهراءاته المتداعية، وقُضي الأمر؟
وجود النيترات لم يكن سراً. بدا أمراً عادياً، يعلم به مسؤولون كثر، وزراء، وموظفون في المرفأ، وعمال بسطاء. تبين كذلك أنها ليست المواد الخطرة الوحيدة التي وجدت في المكان.
الشركة الألمانية «كومبي ليفت»، التي تم اللجوء إليها، حين اكتشفت المزيد من المواد الخطرة، المتروكة منذ سنوات، أعلنت منذ أشهر عن معالجة 52 حاوية تضم مواد كيميائية شديدة الخطورة كانت موجودة في مرفأ بيروت، وأن ما عثر عليه يعادل قنبلة ثانية، لا تختلف عن الأولى في قدرتها التدميرية، بل قد تكون أكبر.
لا بد أن ينتابك الرعب حين تصرح الشركة بأن هذه الحاويات هي الجزء الأول من عملها الذي لم يكتمل. بعدها تبين أن ثمة مواد خطرة أيضاً متروكة في طرابلس والزهراني، عبارة عن مواد كيميائية ونووية تتفاوت درجة خطورتها بين متوسطة وشديدة.
إهمال، سوء إدارة، مؤامرات سياسية، توظيف عسكري، أياً كانت الغايات، فإن تكديس مواد خطرة سريعة الاشتعال، لها مفاعيل قنبلة نووية، هو أمرض لم يكن ليحدث لو خضع زعماء لبنان مجتمعين للقانون والضمير، متخلين عن نفوذهم في كل دائرة ومؤسسة وبلدية وكشك لبيع القهوة.
قد لا نعرف يوماً من ذبح 217 ضحية وأوقع 6500 جريح ودّمر 10 آلاف مبنى في لمح البصر بالاسم، لكن ما هو أكيد، أن كل من يرفض إنهاء نظام التحاصص الطائفي اليوم، هو شريك متورط في الجريمة، ويسعى إلى شرب المزيد من دماء الضحايا.