بقلم - أمينة خيري
على مدار سنوات عمرى الكثيرة، لا أعتقد إننى عاصرت تراشقا بالاتهامات عابر الحدود، متعديا الحكومات، متفوقا على الأنظمة، متربصا بالأفراد، وذلك دون أن يعلن أو يعترف أو يقر أى من المتراشقين بنصف فى المائة من المسؤولية، أى مسؤولية.
التراشق الجارى حاليا، ولو كان بعضه مكتوما ومقتصرا على ما يدور خلف الأبواب المغلقة، أو على أثير الـ«سوشيال ميديا» العامرة بقدر مذهل وغير مسبوق من توجيه الاتهامات وتوزيع المسؤوليات على ما آلت إليه أوضاع ما كان يسمى بـ«القضية الفلسطينية».
(ملحوظة على الهامش: هل تلاحظون أن العالم، باستثناء دول قليلة جدا على رأسها مصر، لم يعد يستخدم مسمى «القضية الفلسطينية»، بل حلت محلها «حركة حماس» أو «قطاع غزة» أو «الضفة الغربية»... إلخ؟!).
أنظمة تتهم أخرى، وشعوب دول تتهم أنظمة شعوب دول أخرى، وقطاعات فى داخل الشعوب تتهم قطاعات أخرى بينها، أو فى شعوب أخرى، وأقاليم تتهم منظمات أممية، ومنظمات أممية تؤكد- أو تحاول أن تؤكد- أنها داعمة لحقوق المظلومين أينما كانوا، وجماعات تهدد دولا بسبب ما تقول إنه «مسؤوليتها»، وحركات تنفش ريشها على أساس أنها وحدها المرابطة والصامدة والمدافعة، وأصوات تتهم الحركات بأنها خربت ودمرت أكثر مما أفادت وأصابت، ودول عظمى صارت صغرى بتصرفاتها تناطح كأنها محلات بقالة، ودول أخرى تؤكد أفعالها أنها كبرى تتخذ خطوات فى محاولات حثيثة لإصلاح ما يمكن إصلاحه مما تبقى من «القضية»، ورغم ذلك لا تسلم من الاتهامات.
كثيرون- وأنا منهم- يشغلهم تحليل وتقييم العملية التى قامت بها «حماس» فى السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣. والحقيقة أن هذا التقييم وهذه العملية بالغة التعقيد لدرجة تعرض ما تبقى من القضية للتبخر فى هواء الشقاق والصراع. إسرائيل دولة محتلة؟ نعم!، للفلسطينيين الحق فى دولة مستقلة وذات سيادة؟ نعم!، هل الأمور يتم حلها بعملية مثل السابع من أكتوبر؟ البعض يقول: بكل تأكيد. هذه الطريقة الوحيدة لإبقاء القضية على قيد الحياة ولفت أنظار العالم إلى مأساة الفلسطينيين؟ والبعض الآخر يقول: بالطبع لا. ما جرى قضى على القضية تماما، أو كاد. وحتى لو أيقظها لبعض أسابيع أو أشهر، فإن هذا الاستيقاظ، والذى لم يسفر عن نتائج، بل أدى إلى مقايضات لشراء غزة وتهجير أهلها دون ذكر للقضية من الأصل، لا يستحق موت نحو ٥٠ ألف فلسطينى (وفى أقوال أخرى ٦٤ ألفا) وإصابة نحو ١١٠ آلاف، ناهيك عن التهجير والنزوح والتلويح بإغلاق ملف غزة.
أعتبر هذا التقييم، لا الاتهام، مهما لأن المستقبل قد يأتى محملا بالمزيد من هذا المشهد الملتبس بالغ التعقيد الذى نعيشه. من جهة أخرى، لا ينبغى أن نتفرغ تماما لتقييم، وإلا سنظل حبيسى دائرة التراشق بالاتهامات المفرغة.
أخشى أن تستفزنا وتستنزفنا الخطط الأمريكية لقطاع غزة، فتبقى علينا فى مستنقع التراشق بالاتهامات للأبد.