بقلم -عادل درويش
كان التعديل الوزاري أهم حدث في بريطانيا، وتابعته أسواق المال والبورصات عالمياً. التعديل، في حكومة بوريس جونسون، لا يزال مستمراً حتى ذهابنا للطبع، والسبب الفصل الإداري والتنفيذي بين الدولة بأجهزتها الثابتة، وبين الحكومة التي تتغير في الانتخابات، والتعديلات الوزارية. فكل وزارة هنا تشمل عدة وزراء، ولها تسميات مختلفة، تعود إلى تاريخ إنشاء الوزارة، والمهام التي تضطلع بها، حسب تخصصات وزارات وأقسام تحتية، قد لا تعكس الترجمة العربية وظائفها والتوصيف المناسب لها، وربما المقابل ما كان يعرف بالمصالح (المفرد «مصلحة») من الترجمة الفرنسية «intérêt» عندما أسس الفرنسيون الجهاز البيروقراطي المصري في القرن التاسع عشر.
فمثلاً وزارة المالية البريطانية ليست «الخزانة» بمفهوم البلدان العربية، وإنما «الخزانة» وزارة تحتية ضمن عدة وزارات، كالمعاملات التجارية، والتبادلات المالية، والجمارك والضرائب. ولذا فوزير المالية (منصب تأسس في 1316) اسمه «مستشار المحاسبات والصرف والدخول» (Chancellor of the exchequer)، إذ لا يوجد مقابل بالعربية دقيق ومحدد، وإنما المستشار (ربما رئيس ديوان المحاسبات العامة) كان تاريخياً مسؤولاً أيضاً عن السياسات حتى تأسس منصب رئيس الوزراء في 1721. أما وزارة الخارجية والكمنولث ودعم بلدان أعالي البحار فهي «مكتب» (Office). كذلك وزارة الداخلية، أما وزارات، كالشغل والمعاشات، والمعارف والعلوم والابتكارات، والتجارة العالمية، والصحة والرعاية الاجتماعية، فهي «Department» (الترجمة العربية قسم أو أقسام). بينما الدفاع، والإسكان والإدارة المحلية، فهي وزارات «ministry». وعندما يتم التعديل الوزاري تحدث ترقيات، أو تخفيضات، ووزراء جدد للحكومة وقدامى يخرجون منها.
وبسبب وجود الوزارات التحتية، وفيها وزراء بعضهم يحضر اجتماع مجلس الوزراء كمراقب فقط، يتطلب التعديل بضعة أيام في ملء كل المناصب. فالمالية مكونة من ثمانية وزراء، ستة وزراء تحتيون (الخزانة، المعاملات المالية، الاقتصاد، الوزير البرلماني للخزانة، المحاسبة، الدقة والكفاءة المالية) بجانب المستشار نفسه (وزير المالية)، ورئيس الوزراء بلقبه «شيخ، أو لورد، الخزانة الأول» كمنصب يعود إلى عام 1126 (عدلت التسمية من «السامي» إلى «الأول» في 1714).
الأسواق حول العالم، بسبب المكانة المالية للندن، تراقب التعديلات الوزارية، خصوصاً أن تعديلات وزارة المالية، تؤثر على البورصات والأسواق بسبب أهمية المنصب وخطورته، ولأنه أقدم منصب وزاري.
ولذا فبقاء ريتشي سوناك في منصبه - وهو من المدرسة الثاتشرية، كذلك ساجد جاويد كوزير للصحة، وترقية ناظم زهاوي إلى وزير للمعارف والعلوم (وتحتها وزارات تحتية للجامعات والمدارس والأسرة والأطفال)، وهما أيضاً من المدرسة الثاتشرية، بجانب عدة وزيرات ووزراء آخرين ينتمون للتيار الثاتشري، أعطى إشارات مطمئنة للمستثمرين والبورصات والبنوك.
ورغم ارتفاع مؤشر البورصة، فإن الجنيه الإسترليني لم يرتفع أمام الدولار واليورو كما كان متوقعاً (ظل في مجال 1.38 و1.41 أمام الدولار و1.18 إلى 1.19 أمام اليورو).
السبب علامات استفهام بشأن التعديل الوزاري الذي اشتمل على حوالي ثلث الوزارات الكبرى المؤثرة (الخارجية، والمعارف، والتجارة الدولية، والإسكان، والعدل). التشكيل الجديد ولا شك هو وزارة عمل وتنفيذ للبرنامج الانتخابي لما بعد بريكست، وهو البرنامج الذي انتخب الشعب وزارة جونسون لتنفيذه، لكن إغلاق النشاط التجاري والأعمال بسبب «كوفيد» لأكثر من 18 شهراً، واستدانة الخزانة لـ299 مليار جنيه (415 مليار دولار)، عطل تنفيذ البرنامج. مثلاً ترقية وزيرة التجارة الخارجية، إليزابيث ترس، إلى منصب وزير الخارجية (ثالث أعلى منصب بعد رئيس الوزراء ووزير المالية) يشير إلى قلق رئيس الحكومة جونسون من شعبيتها بين القاعدة العريضة لحزب المحافظين. وجونسون يكرر ما فعلته سابقته، تريزا ماي، أثناء وزارتها (2016 - 2019) معه، حيث خشيت أن تدفع شعبيته قواعد الحزب إلى ترشيحه بديلاً عنها (وهو ما حدث بالفعل) فجعلته وزيراً للخارجية، أي يسافر، ويسافر، ويسافر، ويتعامل مع العالم الخارجي.
هل بدأ جونسون يشك في وجود تذمر داخل الحزب (وقد سألنا في مقال سابق ماذا كان لا يزال محافظاً في السياسات؟) وبالتالي يدفع بالسيدة الأكثر شعبية بين قواعد الحزب إلى دائرة السياسة الخارجية؟
السؤال الآخر، هل التعديل الوزاري الجديد يكفي بالعودة بحكومة المحافظين إلى سياسة ومبادئ حزب المحافظين، والأهم مواجهة الخطر الأكبر الذي يهدد سلامة المجتمع وثقافته وقيمه، وهي الحركة اليسارية التخريبية التي أشرنا إليها بالـ«ـwoke» في مقالات سابقة؟ وهي خليط من الحركات المتطرفة وجذورها في الماركسية والفوضوية وما بعد التحديثية، ونظريات النقد العنصري، والنسوية التفوقية وغيرها، واختصارها بالإنجليزية «woke» (ووك). وهي ليست حركات إصلاحية تدعو للمساواة مثلاً، وإنما تسعى لهدم النظام الدستوري وتخريب السوق الرسمالية الحرة. هذا الأسبوع لأربعة أيام يحتل محتجو البيئة الطرق الرئيسية حول العاصمة (الطريق الدائري المحيط)، والمؤدية إلى المطار الرئيسي. مما سبب في خسائر تقدر بالملايين.
وهل يكفي مثلاً تعيين السيدة نادين دوريس، المناهضة لتيارت «الووك» كوزيرة للثقافة والصحافة والرياضة للتعامل مع «بي بي سي» والاتجاهات اليسارية المسيطرة على الرأي العام؟
سابق السيدة دوريس، أوليفر داودون، كان أكثر تحدياً لهذه التيارات ومصراً على مواجهتهم، أصبح الآن رئيس اللجنة التنفيذية لحزب المحافظين، وكان يمكن أن يشغل منصباً أكثر تأثيراً، كالصناعة والطاقة مثلاً، خصوصاً أن حكومة جونسون لا تزال ملتزمة بأجندة - آيديولوجية غير قابلة للتطبيق العملي - بشأن البيئة والتسخين الحراري، تكلف الصناعات البريطانية قرابة 68 مليار دولار، يتحمل دافع الضرائب منها حوالي 19 مليار دولار سنوياً. والسياسة استجابة لضغوط «الووك» المسيطرين على صناعة الرأي العام، ومتغلغلين، على المستوى التنفيذي في «civil service» أي الجهاز الإداري للدولة.
صحيح أن جونسون غير مضطر لمواجهة الناخب قبل 2024، لكن نسبة الثاتشريين إلى الليبراليين في التعديل الوزاري الجديد لا تزال غير كافية لدرء خطر تيارات «الووك»، وإنقاذ الاقتصاد من الضغوط الآيديولوجية في عامين. الإنفاق العام بلغ 39 في المائة من الناتج القومي في 2020، ومن المتوقع أن يتجاوز 40 في المائة هذا العام. في ميزانية حكومة جون ميجور عام 1996، كان الرقم 33 في المائة من الناتج، وخسر المحافظون الانتخابات للعمال بزعامة توني بلير وبقوا خارج الحكم 13 عاماً.