بقلم -عادل درويش
أثار اقتراحي، «السوق المائية المشتركة لحوض النيل» («الشرق الأوسط» 8 أغسطس/ آب)، اتهامات كانت وراء رفضي الظهور في برامج تلفزيونية مصرية «للحوار» مع مَن اتهموني «بالعمالة» للاستعمار الغربي و«البنك الدولي»، «لبيع المياه» في حارة السقايين بمصر. الهجوم كان على «السوشيال ميديا»، لا صحف مصرية جادة، فغالباً لا تحظى هذه التيارات بمباركة الجهات المعنية، خاصة أنني ناقشتُ الاقتراح، في الثمانينات والتسعينات، باستفاضة، مع الدكتور بطرس بطرس غالي (1922 - 2016) وزير الخارجية المصري الأسبق، والأمبن العام للأمم المتحدة (1992 - 1996)، والأمبن العام لمجموعة الفرنكوفونية (1997 - 2002) أثناء بحثي كتابي «حروب المياه»، الصادر في 1993. وكان الأكثر إلحاحاً ودعماً لفكرة الكتاب، معتبراً أن تهديد تدفّق النيل لا يقل خطورة عن تهديد النازي بغزو مصر في 1942.
بطرس غالي كان من الداعين لرسم استراتيجية للتعاون الهيدروليكي؛ فتعداد سكان بلدان حوض النيل سيصل إلى 800 مليون بعد ثلاثين عاماً، لن تكفيهم وقتها الموارد المائية إذا ظلّت الأنماط الاقتصادية بوضعها الحالي، والأكثر أهمية تجنب اندلاع حروب المياه.
أغرب الاتهامات كانت وصف السوق المائية المشتركة لبلدان حوض النيل بأنها «مشروع الاستعمار الغربي»، والاتهام مناقض لنفسه؛ فالتيارات التي ساقت التهمة (منها الشيوعيون) ظلّت تهتف لسبعة عقود بأن هدف الاستعمار الغربي كان دائماً التفريق بين الأشقاء، والحيلولة دون تعاون بلدان أفريقيا؛ فكيف أصبح تجمّع 11 بلداً متواصلة جغرافياً في سوق مفيدة اقتصادياً تربط الشعوب بمشاريع نهرية وبخطوط سكة حديد (كما اقترحنا) «هدفاً للاستعمار الغربي»؟
أما الزج بـ«البنك الدولي» في الاتهامات، فلأنه من مصادري في الكتاب، وفي مشاركاتي في ندوات لاحقة، لدقة إحصائيات البنك، ولأنه كان أول مؤسسة عالمية تضع قواعد للتعاون بين بلدان تشارك الحوض النهري، وذلك لغياب هذه البنود من القانون الدولي. كانت البداية عندما اشترط «البنك الدولي» على الهند وباكستان التعاون في فوائد المشاريع، كشرط لتمويل بناء السدود، عقب استقلال البلدين في نهاية الأربعينات من القرن الماضي، ثم بين تركيا وسوريا في الخمسينات، ولا تزال هذه القاعدة سارية.
ردود فعل بعض المصريين كانت غاضبة من تفسيري لعدم ملاءمة المادة 51 من القانون الدولي (الحرب الاستباقية) في حالة إثيوبيا، رغم انتهاكها اتفاقية 1997 (وفارق بين انتهاك بنود اتفاقية، وخرق مباشر للقانون الدولي، لأن الأخير ليس فيه مواد تتعامل مع الأنهار العابرة للحدود)، وواضح رغبتهم في اتخاذ عمل عسكري ضد إثيوبيا.
ما يثير الانزعاج أن المهاجمين، من اليساريين، ينتمون إلى التيارات التي ورّطت مصر في حروب كان يمكن تجنّبها؛ فالاشتباكات بين الإسرائيليين والسوريين عند محاولتهم تحويل روافد نهر الأردن في ربيع 1967 تصاعدت إلى حرب شاملة. ولا يزال أكثرهم يجاهرون بشعارات ما بعد هزيمة 1948، عن ضرورة «تحرير فلسطين بقوة الجيوش العربية»؛ فهل يمكن الاطمئنان لتعامل هؤلاء مع ملف مياه النيل، خاصة أنهم يغلّبون الآيديولوجيا السياسية على براغماتية الخيارات الاقتصادية؟
كما أشار البعض إلى «هدف صهيوني» بحرمان مصر من المياه، كي تعطيها إثيوبيا إلى إسرائيل، من دون توضيح طريقة توصيل مياه هضبة الحبشة إلى إسرائيل.
الطريق البري بين إسرائيل وأديس أبابا طوله خمسة آلاف وخمسمائة كيلومتر، ويمر عبر السودان ومصر، في حالة موافقة البلدين، إلا إذا كان بناء أنبوب مياه في قاع البحر الأحمر جزءاً من هذا «المخطط الصهيوني الاستعماري»، والأمر سيحتاج إلى كومبيوتر وكالة «ناسا» لحساب تكلفة لتر المياه للمستهلك الإسرائيلي، التي ستكون أضعاف ثمن لتر مياه معدنية بالطائرة من ينابيع إيطاليا!
البعض (في هجوم شِبه مهذّب) حاول إظهار «أخطاء معرفية» في أرقام مقترحات «مشروع الاستعمار الغربي»، باعتبار أنني مخرّف، لكن باستقطاعها من المقال، بطريقة «لا تقربوا الصلاة...». وعملاً بنصيحة المرحوم، المستر عبد العظيم، معلم اللغة العربية في مدرستي الابتدائية، نكرّر ما فاتهم علهم يفهمون.
رقم 13 ملياراً و500 مليون متر مكعب من تدوير مياه الصرف، هو مِن ضمن كمية الاستهلاك السنوي (80 ملياراً و250 مليون متر مكعب - أرقام وزارة الري المصرية)، ولم يرد أبداً في مقالي أنها «موارد»، حسب ادعائهم.
ولم أقترح بيع حصة مصر من المياه، والفقرة من مقال الأسبوع الماضي: «بلدان أسفل النهر، كمصر والسودان، تدفع فوائد ما تستخدمه فوق حصص معاهدات حق الاستعمال التاريخي. لكنها أيضاً تجني أرباحاً إذا صدرت محاصيل أو طاقة، أو خدمات تستخدم فيها المياه إلى بقية بلدان السوق (كيلوغرام الأرز مثلاً يتطلب 4 آلاف لتر حتى وصوله للمستهلك)». أي أن رصيد مصر يظل كما هو 55.5 مليار متر مكعب، ومياه تسحب زيادة عن ذلك تدفع عليها فوائد، كما أنها تجني أيضاً فوائد من تصدير منتجات زراعية، حسب كمية المياه المستخدمة في إنتاجها. وبما أن الإنتاج الزراعي يستخدم 85 في المائة من المياه الواردة من النيل، فإن القسم الأعظم منها سيكون مصدر دخل لمصر، سواء بالعملة العادية، كرسوم محاصيل على صادرات إلى 90 بلداً عالمياً، أو بالعملة الهيدروليكية؛ بإعادة المياه (داخل المحاصيل المصدّرة) إلى بلدان السوق المائية المشتركة (ستة حالياً)، وهي بلدان يراها معلق مصري «لم تصل بعد إلى مرحلة نضج الأوروبيين لتكوين سوق مشتركة»، أي أن الأفارقة، في اعتبار «وطني» مصري يتهمني بترويج مشاريع الاستعمار، لم يصلوا بعد لمستوى الأوروبيين قبل 70 عاماً (معاهدة باريس في 1951 بين فرنسا وألمانيا الغربية وبلجيكا ولوكسمبورغ وإيطاليا وهولندا) كنواة السوق المشتركة، وكانت فكرة اقتصادية أصلاً باتفاقية الفحم والصلب، ثم اندمجت لتصبح السوق الأوروبية المشتركة في 1967.
نكرر أن فكرة الحل العسكري ستؤدي إلى كوارث، بجانب أن الترويج لها سيزيد من قلق وتعنّت أديس أبابا. وحتى لو رفضت إثيوبيا في البداية الانضمام لدبلوماسية تأسيس السوق المائية لبلدان حوض النيل، فستضطرها الضرورتان الاقتصادية والجغرافية إلى التعاون مستقبلاً، لأنها landlocked بلا منفذ بحري، وربطها بشبكة السكك الحديدية، كبنية تحتية أساسية للسوق، سيعطيها منافذ على البحرين الأبيض والأحمر.