بقلم: عادل درويش
ناقشنا الأسبوع الماضي الضغوط التي يتعرض لها رئيس وزراء المملكة المتحدة، بوريس جونسون، خاصةً من نواب حزبه (المحافظين) الحاكم - وبالفعل لم يهب ثلثهم للتصويت معه يوم الثلاثاء، وصوّت 98 منهم ضده. وخلصنا للقول بأن معظم النواب المحافظين يرون جونسون رصيداً انتخابياً لشعبيته الكبيرة، خاصةً في دوائر مناطق الشمال الصناعية التي تخلت عن العمال وانتخبت نواب جونسون. نتائج الانتخابات الفرعية في دائرة شمال شروبشير في قلب الريف الإنجليزي التي دائما تصوّت للمحافظين، جاءت رياحها بما لا تشتهي سفينة الحكومة بقيادة جونسون. لكن تشريح نتائجها وأسبابها درس مهم لمراقبي النظام الديمقراطي وراصديه، عما يحدث في بلد هو الأعرق ديمقراطياً، من تنظيم العلاقة بين الحكومة وبين الناخب الذي يستغل مناسبات الانتخابات الفرعية لتذكيرها بأنه صاحب العمل الذي يستطيع أن يفصلها ويعين بديلاً بجرة قلم على البطاقة الانتخابية.
المفاجأة تذكير بتأثر العوامل الخارجة عن سيطرة الحكومة كوباء فيروس «كورونا» ومتحوراته، والذي اختلفت تأثيراته على البلدان حسب الأنظمة الانتخابية المختلفة. وكان أثره أعمق وأكبر في بريطانيا، لأنه أعطى الصحافة ومؤسسات صناعة الرأي العام اليد الطولى في توجيه الناخب بعيداً عن النشاط التقليدي وهو الحوار مع نشطاء الحزب وجهاً لوجه على عتبة الدار، وفي الأسواق، وأماكن العمل وديار الناخبين أنفسهم.
في الأسابيع التي سبقت التصويت، انشغلت الصحافة، خاصةً الشبكات التلفزيونية، بتسريبات من الوزارات ومكتب رئيس الوزراء في 10 داونينغ ستريت، عن أمور انطباعية أكثر منها سياسية، (راجع مقال الأسبوع الماضي) وتتعلق بحفلات وأنشطة مرح ولهو أثناء موسم أعياد الميلاد في العام الماضي (2020) بينما كانت تعليمات وإرشادات الحكومة للناس بالعزلة وعدم لقاء الأحبة والأهل لتجنب نقل عدوى الفيروس.
ومهما تحجج المحافظون بنوايا وأهداف الصحافة التلفزيونية (رغم صواب الاتهام بسيطرة اليسار الليبرالي على حملة منظمة للقضاء على زعامة جونسون والوزراء الذين قادوا مسيرة البريكست)، فإن هذه التسريبات وتركيز مؤسسات صناعة الرأي عليها شكلت حالة من الاشمئزاز لدى الناخب لعدم التزام الزعامة السياسية للبلد بالتعليمات الصحية والوقائية التي فرضتها على الشعب. وفي غياب النشاط الانتخابي العادي ولقاء الساسة وجهاً لوجه، تضخم لدى الناخب الانطباع السلبي الذي شكلته حملة الصحافة والشبكات التلفزيونية تجاه جونسون وحكومته.
أصبح مقعد شمال شروبشير شاغراً باستقالة أوين باترسون (الوزير السابق 2010 - 2014 في حكومة ديفيد كاميرون)، وكان قد فاز في انتخابات 2019 بأغلبية تقارب 23 ألف صوت.
كان لاستقالة باترسون تأثيرات سقوط أحجار الدومينو، إذ اُتهم بانتهاك اللوائح البرلمانية وبعدم الشفافية عن دخول إضافية من عمله مستشاراً للشركات، واتهمت الصحافة والمعارضة حكومة جونسون بمحاولة تعديل اللوائح بدلاً من محاسبة النائب المحافظ (راجع «تهمة الفساد في أم البرلمانات - 14 نوفمبر/ تشرين الثاني هذا العام). وهي واحدة من أفدح أخطاء الحكومة لأنها مزجت بين محاولة تعديل لوائح إجراءات برلمانية في أمس الحاجة للإصلاح والتطوير، وبين محاولة إنقاذ باترسون، كواحد من حلفاء جونسون من العقوبة البرلمانية، وكان يجب الفصل بين الأمرين.
تصويت شمال شروبشير، كان لطمة قاسية للمحافظين مثيرة التساؤل ما إذا كانوا سيحتفظون بقبطان السفينة في بحر متلاطم الأمواج والعواصف، أم يدفعون به إلى اليم، كما فعلوا مع زعماء اعتبروهم أثقالاً على السفينة؟
في 1975 أزاحوا إدوارد هيث (1916 - 2005) وكان رئيساً للوزراء مرتين، (1970 - 1974 و1974 - 1975)، ومارغريت ثاتشر (1925 - 2013) في 1990 رغم تكرار فوزها انتخابياً (1979، 1983، 1987)، وتيريزا ماي في 2019.
ناخبو شمال شروبشير أداروا ظهورهم للمحافظين مفضلين هيلين مورغان مرشحة الديمقراطيين الأحرار، بفارق ستة آلاف صوت.
التصويت كان عقابياً للمحافظين، فالناخب صوّت تكتيكياً، والمقصود أن الأنصار التقليديين للأحزاب الأخرى كالعمال والخضر يتكتلون للتصويت لمرشح واحد نكاية في مرشح الحكومة أو لاستبعاد مرشح بعينه. ففي انتخابات 2019 التي فاز فيها مرشح المحافظين بـ63 في المائة من الأصوات (35.444) جاء العمال في المركز الثاني (بخُمس الأصوات 12.495) والديمقراطيون الأحرار في المركز الثالث بنسبة 10 في المائة من الأصوات (خمسة آلاف فقط). في انتخابات الخميس هذا الأسبوع، تعمد أنصار حزب العمال منح أصواتهم لمرشحة الديمقراطيين الأحرار، السيدة مورغان التي فازت بنسبة 47 في المائة من الأصوات (دون 18 ألف صوت)، وفور انتخابها شكرت أنصار العمال بالتصويت لها، وجاء مرشح العمال في المركز الثالث بتسعة في المائة فقط (ثلاثة آلاف صوت) وهي رسالة واضحة لجونسون بعدم الرضا عن أداء حكومته، إذ امتنع معظم مصوتي المحافظين التقليديين عن التصويت. فقد صوّت أقل من نصف عدد المسجلين في الدائرة (46 في المائة) مقارنة بـ68 في المائة في انتخابات 2019. ولو حضر نصف الممتنعين عن التصويت (18.491) لكان المحافظون احتفظوا بالدائرة.
من الخطأ أن يعتبر الديمقراطيون الأحرار تصويت شروبشير زلزالاً انتخابياً وأن الشعب سيضعهم في 10 داونينغ ستريت في انتخابات 2024، لأن التصويت كان احتجاجياً، خاصةً أنها من أكبر الدوائر التي صوتت لبريكست، بينما يجاهر الديمقراطيون الأحرار بأن الشعب أخطأ بالتصويت لبريكست ويريدون إعادة المملكة المتحدة إلى حظيرة الاتحاد الأوروبي.
الدائرة ريفية واقتصادها زراعي والناخبون أكثرهم من المزارعين غير سعداء بعجز الحكومة عن تعويض الدعم للمحاصيل كبديل لاتفاقية المحاصيل الزراعية للسوق الأوروبية المشتركة؛ ويعتقدون أن المحافظين بزعامة جونسون اعتبروا أن الدائرة في جيبهم وكرروا خطأ حزب العمال مع دوائر الطبقة العاملة في الشمال الصناعي.
الأمر الآخر الذي أثار حفيظة الناخب المحافظ التقليدي ما بدا من اتجاه جونسون ومجموعته، خاصةً وزير ماليته ريشي سوناك، إلى إجراءات تشبه الحكومات الاشتراكية، سواء في السياسة الضرائبية، ودعم من تعطل عن العمل بسبب عزلة كوفيد، والتي يراها المحافظون التقليديون ليس فقط مناقضة لحرية السوق وأسس الاقتصاد الليبرالي، بل أيضاً فرض إجراءات قسرية للوقاية يعتبرونها ديستوبية dystopic (ديكتاتورية شمولية).
غياب البرلمان في إجازات أعياد الميلاد حتى الشهر القادم، سلاح ذو حدين، فقد يستغل جونسون وحلفاؤه الفترة لإقناع بقية النواب بأن شعبيته لا تزال رصيداً انتخابياً، رغم حملة الصحافة الليبرالية، أو قد يستخدم الخصوم الفترة نفسها لإقناع أغلبية نواب الحزب بأن الزعيم فقد شعبيته ومن الضرورة البحث عن بديل.