الرجل الصامت

الرجل الصامت

الرجل الصامت

 العرب اليوم -

الرجل الصامت

بقلم - تركي الدخيل

لا أزال أتذكر رجلاً كان يملأ وِجدَانِي مَهَابةً وإجلالاً، حين أَرَاهُ في صِبَايَ، يغشى محافل العائلة، واجتماعاتها. كانت السِّمَةُ، التي تغمرني فيه تهيباً؛ طُولَ صمته، وَقِلَّةَ حديثه، فقد بدا لي، مُستَغنِيَاً عن الكلام، زاهداً في فضول الحديث، غير مُبالٍ بأن ينطق، أو يُصغِيَ إليه أحد. وزاد إعجابي به أنه إذا تَكَلَّمَ سَلَبَ إِنصَاتَ الحضور، فَشَخَصَت لهُ الأبصار، وشُنِّفَت لحديثه الآذان، فجذب الاهتمام، مع بالغ التقدير والاحترام.

لا أعلم، وأُحَدِّثُكُم بصراحة، إن كان صمته الطويل هو سِرُّ إصغاء القوم إليه، حين يَعِنُّ له الكلام، أو أن كلامَه كان عَالي القيمة، ولذا يُقَدِّرُه الناس تقديرَهم للأحجار الكريمة، التي صارت كريمة لِنُدْرَتِهَا.

وأظنكم، يا سادة، تذكُرُون أشخاصاً لهم هيبتهم، وقدرهم الرفيع، يجمع بينهم ما يبدو عليهم من جَلالٍ، وحُسْنُ سَمْتٍ، لإتقانهم فضيلة الصمت.

ولا يُلام الناس في تقدير الصامتين، فالصمت يكسو صاحبه مهابة، ويوحي لك بأن الصامت مُتَرَفِّعٌ عن صغائر الأمور؛ إذ يرى معظم الأمور صغائر، وأنه يصقل بالسكوت سيف لسانه.

على أن في الصامتين، من يُعَدُّ صَمتُهُ سِتراً لحاله؛ حتى إذا نطق أظهر سوء بضاعته، فأيقن الناسُ أنهم اسْتَسْمَنُوا بِسكوتِهِ وَرَمَاً.

قال أبو الدَّرداء: «تَعَلَّموا الصَّمتَ كما تَعَلَّمون الكلامَ؛ فإنَّ الصَّمتَ حِلمٌ عظيمٌ، وكُنْ إلى أن تَسمَعَ أحرَصَ مِنك إلى أن تَتَكَلَّمَ، ولا تَتَكَلَّمْ في شيءٍ لا يَعنيك». وقال علي بن أبي طالب: «أفضَلُ العبادةِ الصَّمت، وانتِظارُ الفَرَجِ». وكان يقالُ: «الحِكمةُ عَشَرةُ أَجزَاءٍ: تِسعَةٌ منها في الصَّمتِ، والعاشِرةُ عُزلةُ النَّاس». يقول عبدُ الرَّحمنِ بنُ شُرَيح: «لو أنَّ عبداً اختار لِنَفسِه، ما اختار أفضَلَ من الصَّمتِ». وأوصى الشَّافعي شابّاً مِن أصحابِه نصيحة تفوح حكمة، وتَعبِقُ عقلاً، فقال: «الزَمِ الصَّمتَ إلى أنْ يَلزَمكَ التَكَلُّم؛ فإنَّما أكثرُ مَن يندَمُ، إنَّما يندمُ إذا هو نَطَق، وقلَّ مَن يَندَم إذا سَكَت، واعلَمْ بأنَّ الرُّجوعَ عن الصَّمتِ إلى الكلامِ، أحسن مِن الرُّجوعِ عن الكلامِ إلى الصَّمتِ».

ومن بليغ كلام أكثَم بن صَيفي: «الصَّمتُ خيرٌ من عِيِّ المَنطِقِ».

ويشرح العنتري، بعض مزايا الصمت، بقوله:

من لزم الصمتَ اكتسى هَيبَةً تُخفِي عن الناس مَسَاوِيْهِ

لسانُ من يَعقِلُ فِي قَلبِهِ وَقَلبُ مَن يَجهَلُ فِي فِيهِ

تقول العرب: «رُبَّ كَلامٍ أَورَدَكَ مَوْرِدَ القِتَال». ونَصَحَ حكيمٌ ابنه، فقال: «يا بُنَيَّ، قِ (أي اتَّقِ) فَاكَ ما يَقرَعُ قَفَاك». ويُقَال: «مِلاكُ حُسن السَمتِ، إِيثَارُ الصَمتِ».

ولأبي العتاهية، عَجْزُ بيت يقول فيه:

الصمتُ إِن ضَاقَ، الكلامَ أَوسَعُ

قال عمرو بن عبيد: «كانوا يخافون من فِتْنَة القولِ، ومن سقطَاتِ الكلام، ما لا يخافون من فِتنَةِ السكوت، وسقَطَاتِ الصَمْتِ».

لابن السِّكِّيت:

يُصَابُ الفتى مِن عَثرَةٍ بِلِسَانِهِ وليس

يُصابُ المرءُ مِن عَثْرةِ الرِجْلِ

فَعَثْرَتُه بالقَوْلِ تُذْهِبُ رَأسَه

وعَثْرَتُه بالرِجْلِ تَبْرا على مَهْلِ

ولأبي بكر الصديق:

عَجِبتُ بِإِزراءِ العَيِيِّ بِنَفسِهِ

وَصَمت الَّذَي قَد كَانَ بِالقَولِ أَعْلَمَا

وَفي الصَمتِ سَترٌ لِلعَيِيِّ وَإِنَّما

صَحيفَةُ لُبِّ المَرءِ أَن يَتَكَلَّمَا

قال بعض الحُكماء: «إذا جالستَ الجُهَّال فأَنصِتْ لهم، وإذا جالستَ العُلماءَ فأَنصِت لهم، فإنَّ في إنصاتك للجهال زيادة في الحِلم، وفي إنصاتك للعلماء زيادة في العلم».

ولابن المعتَز، مقولة بليغة: «إذا تَمَّ العَقلُ نَقَصَ الكلام». وهي عبارة موجزة، لكن معانيها تستحق الإطناب، فكراً وشرحاً، فالصمت عين السلامة، ولُبُّ الفرار من الندامة، ومن طال صمته لزمت هيبته، ومن كثر كلامه كثر سَقْطُه، واستحكمت زَلَّتُه، فانحدرت مكانته، وانحط قدره.

وما يُجدي، أيها السادة، أن يتكلم المرء بكلام لا تدعو إليه حاجة، فلا مصلحة تفوت إذا قيل، ولا ضرر يقعُ إذا لم يُقل، ولا خير في كلام يقال في غير موضعه.

جلَسَ الأحنف بن قيس، سيد بني تميم، يوماً في ناديه، وعنده في المجلس شابٌّ طويل الصمت، فأعجب الأحنف بسمته وصمته، وحين خلا المجلس من الناس، قال الأحنف: تكلّم يا ابن أخي! فقال الشاب: يا عم! أرأيت لو أن رجلاً سقط من شرفة هذا المسجد، كان يضره شيء؟ فقال الأحنف: ليتنا تركناك مستوراً. ثم أنشد قول زهير:

وَكَائِن تَرى مِن صَامِتٍ لَكَ مُعجِبٍ

زِيادَتُهُ أَو نَقصُهُ فِي التَّكَلُّمِ

لِسانُ الفَتى نِصفٌ وَنِصفٌ فُؤَادُهُ

فَلم يَبقَ إِلّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ

وتمر بالناس أيام، يصبح فيها الصامت أقرب إلى السلامة، وأبعد عن الندامة، فكم من كلمةٍ أوردت قائلها المهالك، وكم من لسانٍ أَقَضَّ مضجع صاحبه، وألقى به في المخاطر والمعارك.

قال أحدهم:

استر النفسَ ما استطعتَ بِصَمتٍ

إنَّ في الصمتِ راحةً للصَّمُوتِ

واجعلِ الصمتَ إِن عَيِيِتَ جَوَابَاً

رُبَّ قَولٍ جَوَابُهُ في السُكُوتِ

ليس حديثنا الآنف، يا سادة، دعوة للصمت حتى الموت، ولا توجيه للصيام عن الكلام على الدوام، لكنه حَثٌ على اختيار الصمت حين يكون أنفع من الكلام، ودعوة إلى تَخَيُّر أطايب المعاني، وأجود الألفاظ، إذا لَزمك الحديث، وفيه يقول أبو الفتح البستي:

تَكَلَّم وسَدِّد ما استَطَعْت، فَإِنَمَا كَلامُكَ حَيٌّ، والسكوتُ جَمَادُ

فَإنْ لم تَجِدْ قَوْلاً سَدِيدَاً تَقُولُهُ

فَصَمْتُكَ عَنْ غَيْرِ السَدِيْدِ سَدَادُ

ونحن، يا كرام، في زَمنٍ طَغَى فيه الكلام، وانتشرت فيه الثرثرة، حتى كأننا في حفلة هذرٍ، يُقَالُ بلا سَبَبٍ، ويُرطَنُ بلا دَاعٍ. لقد كثر من يهذي بكل حديث مؤذٍ، واستفحل من يَهرِفُ بِمَا لا يَعرِف، فالصمتُ مذموم، إذ اعتلى الصوت بالحديث المحموم، والسكوت في عصرنا ممنوع، والعتب على المهذار مرفوع، لكن ذلك لا يُغَيِّرُ من الحِكمَة القائلة: «رَحِمَ اللهُ امرَأً قال خيراً فَغَنِم، أو سَكَتَ فَسَلِم».

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الرجل الصامت الرجل الصامت



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 21:12 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
 العرب اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته
 العرب اليوم - أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما
 العرب اليوم - رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات
 العرب اليوم - المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:40 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

القهوة والشاي الأسود تمنع امتصاص الحديد في الجسم

GMT 06:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فلسطين و«شبّيح السيما»

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 06:45 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يقترب من وقف النار

GMT 10:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 02:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

11 شهيدًا في غارات للاحتلال الإسرائيلي على محافظة غزة

GMT 06:56 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فرصة إيرانية ــ عربية لنظام إقليمي جديد

GMT 19:23 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ميادة الحناوي تحيي حفلتين في مملكة البحرين لأول مرة

GMT 03:09 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عدوان جوي إسرائيلي يستهدف الحدود السورية اللبنانية

GMT 07:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 07:53 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تحاكم 4 أشخاص بزعم الانتماء لـ "حماس"

GMT 06:54 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

النموذج السعودي: ثقافة التحول والمواطنة

GMT 07:10 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

تحذير أممي من تفشي العنف الجنسي الممنهج ضد النساء في السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab