انعزالية الجزر

انعزالية الجزر

انعزالية الجزر

 العرب اليوم -

انعزالية الجزر

سمير عطا الله

سافرت مرة مع زوجتي إلى جزيرة الأمير إدوارد في كندا. وهي إحدى أجمل الجزر أو البقع الطبيعية في العالم. وكانت لا تزال في السبعينات قليلة السكان، كثيرة الهدوء ومبالغة في العزلة. وعندما ركبنا الباخرة أو العبّارة للوصول إلى الجزيرة، لاحظت أن العيون كلّها على القادمَين الغريبَين. مما يوحي بأن أهل الجزيرة يعرفون بعضهم بعضاً، فرداً فرداً. وبالفعل تقدّم منّي رجل طويل القامة، نحيلها، وقال في شيء من الفظاظة: «ماذا يحملكما إلى الجزيرة». وشرحت بأننا قادمَان لزيارة بعض الأصدقاء، فطلب أسماءهم، وكأنه لا يصدّقنا. وتركنا نشعر بأننا نشكّل غزواً خارجياً خطراً على تلك البقعة من الأرض والمياه.

أدركت يومها بنفسي ما كنت قد قرأت عنه بالكتب عن نفسية أهل الجزر، وخوفهم من الدخلاء ومن كل غريب. ويسود هذا الشعور بالتعصّب حتى ضمن البلد الواحد مثل اليونان أو إندونيسيا. وكانت الجزر البريطانية غرابة الغرابة، إذ خرجت هي إلى العالم تبني إمبراطوريتها في كل مكان تحت الشمس، وبدل أن تخاف على عزلتها، خاف الآخرون من توسّعها. فقد رفعت علمها في كل مكان، وزرعت لغتها في أرجاء الكون، فأصبحت لغة الفكر والأدب والتجارة والعلوم عبر القارات. وعندما ذهب الإنسان إلى الكواكب الأخرى، كانت هي أيضاً لغة الفضاء بعد ريادة روسية مختصرة.

لم تكن الإنجليزية لغة شكسبير وحده، بل شكّلت أيضاً مجد البولندي جوزيف كونراد، والهنغاري آرثر كوستلر، وسلسلة طويلة من عباقرة آيرلندا مثل جورج بيرنارد شو وجيمس جويس ووليم باتلر ييتس. وتحوّلت لندن، بسبب تلك اللغة، إلى المركز العالمي للمسرح والمال والصحافة والفكر السياسي. الآن يعبث رجل واحد بكل ذلك التراث، ويحاول إعادة الجزر الإمبراطورية إلى ما كانت عليه في العصور البدائية. ويصرّ على الخروج من أوروبا في نهاية هذا الشهر من دون أي اتفاق قانوني، يحفظ حقوق الآخرين وحقوق شعبه. لم يحدث في الديمقراطية أن ضُربت في مهدها بمثل هذا الإلحاح وهذه اللجاجة. ومنذ وصوله إلى داوننغ ستريت، ينفرط من حوله الحلفاء والمحازبون يميناً وشمالاً، وبالسرعة التي ينفرطون بها من حول دونالد ترمب.

طبعاً بوريس جونسون ليس وحده في هذا العصف التعسفي بالقيم والتقاليد. هناك من يؤيده كما هناك من يؤيد ترمب. كما هناك من يرفع الراية الانعزالية في كل مكان. لكن هؤلاء جميعاً لا يشكّلون أكثر من أقلّية تعاكس التاريخ والمنطق وتُلحق الضرر بالحاضر والمستقبل. وسواء بقي بوريس جونسون، أو أُرغم على الاستقالة، فإن مرحلته لا تتسخ كثيراً مع تاريخ بلاده.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

انعزالية الجزر انعزالية الجزر



ميريام فارس بإطلالات شاطئية عصرية وأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 16:07 2024 الجمعة ,26 تموز / يوليو

غارة إسرائيلية على أطراف بلدة مركبا فى لبنان

GMT 16:01 2024 الجمعة ,26 تموز / يوليو

ارتفاع التضخم في أمريكا خلال يونيو الماضي

GMT 13:19 2024 الجمعة ,26 تموز / يوليو

محمد ممدوح يكشف عن مهنته قبل التمثيل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab