بقلم : سمير عطا الله
لم يستخدم أنيس منصور النعوت، كما ذكرنا غير مرة. وحجم الزاوية الصغيرة لا يتحملها في أي حال. وتجنب العواطف والرومانسيات مثل جميع القادمين من رواق الفلسفة، ومنهم لويس عوض وسلامة موسى. لكن كان في إمكان أنيس أن يكتب أكثر المقالات حزناً وأحزاناً من دون أن ينقح في قصيدة عند الغروب أو يعزف وتراً. مع أنه كان ذا صوت جميل، وفكر مراراً في احتراف الغناء، وأحيا أمام محمد عبد الوهاب أكثر من حفلة خاصة.
وقد قرأت له أكثر القطع حزناً عندما كتب كيف بحث طويلاً عن الشاعر عبد الرحمن شكري، الذي قال عنه العقاد إنه لم يعرف أحد مثله كما عرف الشعر العربي والإنجليزي... إليكم عبد الرحمن شكري بريشة أنيس منصور: «لقد وجدت شاعرنا الكبير عبد الرحمن شكري قصيراً. أقصر مما تخيلت... أو لعله صار قصيراً نحيفاً... وطربوشه قد اتسع على رأسه... أو رأسه صغر فهبط الطربوش إلى ما فوق حاجبيه...
وأما منظاره الغليظ، فغطى جزءاً من الطربوش... أما لون الطربوش فهو أحمر أسود... أو أسود أحمر... ولكنه مطبق... تكسر أو انكسر... أما ملابس الشاعر الكبير فبدلة قديمة جداً... ويبدو أن لديه قميصاً واحداً اختفت ألوانه أو صارت له ألوان وفيه فتحات...
ولا أذكر لون الجاكت أو البنطلون... ولكن من المؤكد أن لهما ألواناً... والذي أدهشني أنه صافحني كأنه يعرفني... أو كأننا التقينا قبل ذلك بأيام. لم يندهش... بل أنا اندهشت لذلك...
ثم أشار إلى الأرض: تفضل. أي تفضل واجلس على الأرض... فليس عنده مقعد... ولا سرير... وإنما المرتبة والمخدات على الأرض... وليس في الغرفة شيء... لا كوب ولا كتاب ولا صحيفة...
وجلست على الأرض... أما هو فقد خلع حذاءه أو انخلع حذاؤه وتساقطت الجاكتة والبنطلون. ولم يكن قميصاً وإنما جلباباً حشره في البنطلون، فهو قميص نهاراً وجلباب ليلاً... واتخذ ركناً من الغرفة... وجلس واتجه إلي يسألني ماذا أريد وكيف اهتديت إليه... فقلت: لقد ظنوك ميتاً أستاذ... أو انتحرت... أو أصابك شيء فسقطت في الشارع ثم مقابر الفقراء لا يدري بك أحد... بعد أن نسيك الأدباء والشعراء عشر سنوات أو يزيد...
سألته هل تسمح لنا بأن نلتقط لك صورة؟
وخلع طربوشه ووضع إلى جواره جزمته... ثم طربوشه فوق الجزمة... ثم وضع الطربوش بين الجزمتين... ثم قال: هذه أحسن صورة!
ونشرت صورة شاعرنا الكبير وقت أنني اكتشفت أنه حي... وبعد أيام مات الشاعر الكبير فقلت: كان من الممكن أن يموت بدون أن يدري به أحد... ولكن أفلحت في أن أجعل موته علناً»!