أم أقوى من النكبتين

أم أقوى من النكبتين

أم أقوى من النكبتين

 العرب اليوم -

أم أقوى من النكبتين

بقلم - سمير عطا الله

نكبت أم الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844 - 1900) مرتين؛ الأولى عندما بلغها أن ابنها المفكر والأستاذ الهادئ أعلن إلحاده. والثانية عندما أبلغها الأطباء أن الابن دخل في متاهة عقلية سوف تستمر في التدهور ولا خروج منها.
أدركت الأم أن ثمة أماً واحدة في الحياة، وأن الابن الذي أغضبها في إلحاده ليس له أحد سواها. ولم يكن عليها العناية به كابن، بل كمريض أيضاً. وقد أسر ألمانيا مشهد تلك المرأة المسنة تقود مريضها في النزهات، أو تتلو القصائد التي تذهله، في محاولة منها لإبقائه منشغلاً. وفيما يتفوه أحياناً ببعض الجمل الغريبة وهو يمشي بين الناس الذين يحدقون إليه بفضول، تبقى أمه راضية طالما لا يحدث أي فضيحة.
في المنزل، بطبيعة الحال، يسهل الاهتمام به وحصره. فهي إما تجده جالساً أمام البيانو، غائب العقل حاضر الجسد، وإما تعطيه ما يقرأه ولكن طبعاً، ليس لنيتشه أدنى فكرة عما يقرأ، ولكن مجرد حمل الكتاب أو الصحيفة وتمتمة الكلمات يسكن من روعه. وإن وقعت يداه يوماً على قلم، تنتابه ذكريات داكنة تلمح له بأنه كان يوماً كاتباً، فيشرع في خربشة الكلمات غير المفهومة على ورقة تلو الأخرى. وكان الشاعر والموسيقي ما زالا حيين في داخله، ولكن لم يبق سوى طيفهما. وحسب أمه، هو يُكثر الكلام، ولكن غالباً ما يكون كلامه فارغاً من المعنى. تُخبر الأم كل ذلك صديقتها بطريقة مؤثرة للغاية، فهي تحاول أن تنقل بأسلوب الأقصوصة البسيط ما يحدث معها ومع ابنها من دون أن تشوه صورته بقدر المستطاع. بل تتحفظ عن ذكر الأحداث القاسية وتجمل الواقع متحدثة عن «الابن الصالح» صاحب «الوجه المنير والنظرات الحذقة»... ولا يفضح ألمها سوى تلك التنهدات المتقطعة التي تخبر عن العبء العظيم الذي تحمله تلك المرأة على كاهلها في الاهتمام بابنها ومراقبته وغسله وإطعامه وإلباسه من دون أي مساعدة، لأكثر من اثنتي عشرة ساعة يومياً، ومن ثم الانصراف إلى الأعمال المنزلية، لسنة، وسنتين، وخمس سنوات، مضحية بحياتها في سبيل تعافٍ وهمي، من دون ساعة حرية ولا لحظة راحة. ولكنها تعزي نفسها بوجوب «الصبر والثقة بأمانة نعمة الله وعظمة رحمته».
ولكن، في نهاية المطاف. لم يعد بإمكان الأم أن تخدع نفسها. ففلذة كبدها يذوب أمامها. قواه تنزف والتعب ينتابه. حتى أنه لم يعد يذهب في نزهات سيراً على الأقدام. بل يلازم كرسيه بعينين مثقلتين. وبكلماتها، «لم يعد يركب جملة واحدة. هو ينهار جسدياً. ومنظره مبكٍ». لم يعد حتى يتعرف إلى يديه، وكأنه فقد هويته إلى غير عودة. وفيما يهم أهله وأصدقاؤه بزيارته، يذهب مجهودهم سدى. لأنه لم يعد يتعرف إلى أي منهم.
أكبر العقول الذي جمع أعمق معرفة بأبرع طرق التعبير تقضي على كيانه بكتيريا صغيرة، وتمحي قوته الابتكارية وتعدمه. هو سرٌ، هو لغزٌ، لم يترك فقط أم الرجل المسكينة منذهلاً، بل أدهش العقول. ولكن ما يثير العجب هو مثابرة تلك الأم البطولية التي لم تتوان عن الاهتمام بابنها متمسكة باحتمال المعجزة الضئيل بصبرٍ ووداعة.

arabstoday

GMT 03:41 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

ثلثا ميركل... ثلث ثاتشر

GMT 03:35 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

مجلس التعاون ودوره الاصلي

GMT 03:32 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

عندما لمسنا الشمس

GMT 03:18 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

رسالة إلى دولة الرئيس بري

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أم أقوى من النكبتين أم أقوى من النكبتين



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 17:46 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الشيوخ الأميركي يطالب بايدن بوقف حرب السودان
 العرب اليوم - الشيوخ الأميركي يطالب بايدن بوقف حرب السودان

GMT 15:41 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
 العرب اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 06:42 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران ولبنان.. في انتظار لحظة الحقيقة!

GMT 07:07 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة

GMT 07:23 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

"فولكس فاغن" تتمسك بخطط إغلاق مصانعها في ألمانيا

GMT 11:10 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

مسيرات إسرائيلية تستهدف مستشفى كمال عدوان 7 مرات في غزة

GMT 17:28 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد عز يتحدث عن تفاصيل فيلم فرقة موت

GMT 11:15 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها في السعودية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab