بقلم - سليمان جودة
أسوأ ما في حادث ذبح مدرس التاريخ في فرنسا عصر الجمعة، أن المجني عليه لقي مصرعه في مكان الحادث، وأن الجاني قد لقي مصرعه أيضاً، ولو عاشا بعد الواقعة لكان أمامنا أن نفهم منهما لماذا أقدم كلاهما على ما أقدم عليه في حق الآخر؟!
والآخر الذي أقصده هنا ليس هو المدرس صمويل باتي، الذي وضع رسوماً مسيئة لنبي الإسلام على مرأى من تلاميذه في مدرسته الواقعة في بلدية كونفلان شمال باريس، ولا هو الشاب عبد الله أبو يزيد فيتش، الذي انتظر المجني عليه في طريقه ثم نحره على الملأ.
الآخر الذي أقصده هو المعنى العام للكلمة، بما يشير إلى كل الذين يدينون بديانة صمويل في جانب، وكذلك كل الذين يدينون بديانة عبد الله على الجانب الآخر. إن كل طرف مدعو إلى احترام مقدسات الطرف الآخر وعدم المس بها تحت أي ظرف.
ولو عاش مدرس التاريخ لكان علينا أن نجادله بالتي هي أحسن، كما ينصحنا دين الإسلام في آية صريحة من آيات القرآن الكريم، كنا سنفعل ذلك معه حتى ولو كان شيطانه قد زين له في لحظة من اللحظات أن حرية التعبير، التي هي حق أصيل من حقوق الإنسان، يمكن أن تتحقق بالإساءة إلى مقدسات الآخر... لو عاش لكان بالتأكيد سوف يناقش في أن ما قدمه للتلاميذ في الفصل هو من قبيل حرية التعبير التي يعتقد فيها ويؤمن بها، والتي لا يجوز أن يصادرها أحد، ولا أن يحرمه منها أحد. كنا سنسمع منه كل ما يقول، وكنا بالحسنى سنقول له ولكل مَنْ يؤمن بالفكرة نفسها، إن حرية التعبير مصونة في كل قانون سليم، وفي كل دستور يخاطب الإنسان من حيث هو إنسان، ولكنها حرية ليست مطلقة بطبيعتها.
كنا سنسمع ما يقول، وكنا سنقول على مسمع منه، وكذلك على مسمع من كل الذين قد يشاركونه الرأي والفكر، إن حرية التعبير هي حق أساسي من حقوق الإنسان في كل مكان، وإنها حق ليس مطلقاً بطبيعتها، لأن إطلاقها من دون ضوابط حاكمة ومنظمة، إنما يلحق الضرر بالشخص الذي يمارسها كحق، قبل أن يلحق الضرر ذاته بالآخرين ممن يطلبون الاحترام الواجب لمقدسات الدين.
كنا سنناقشه بالعقل وليس بسواه، فاللغة التي يتكلم بها العقل هي اللغة التي يستوعبها أهل الغرب، وهي التي يفهمونها، وهي التي يقتنعون بها وبما تحمله من المعاني والدلالات. هي لغة عالمية يستقبلها كل إنسان بفهم تام إذا نحى جانباً هواه.
كنا سنقول أمامه على سبيل النصح العام، إن تفاصيل ما جرى منه في الفصل تقول، إنه لما قرر عرض الرسوم المسيئة على التلاميذ، طلب ممن يمكن ألا يحتملوا منهم ما سوف يعرضه أن يغادروا أماكنهم إذا شاءوا، وكنا سنقول إن هذا تحديداً منه لو كان قد استوقفه، لكان قد أدرك من خلاله أن ما لا يحتمله تلاميذ صغار، لا تحتمله الطبيعة البشرية السوية بدورها على السواء.
كنا سنقول له إن للرسول الكريم الذي أساءت إليه الرسوم حديثاً مروياً عنه يقول ما معناه، إن الشر الذي لا يجوز ارتكابه ولا إتيانه، هو ما حاك في صدرك وخشيت أنت أن يراك عليه الناس. والمعنى أن مدرس التاريخ لما طلب من التلاميذ الذين لا يحتملون الرسوم أن يغادروا، كان بينه وبين نفسه يعرف ولو نسبياً، أن ما تضمه الرسوم من المعاني هو شيء من نوع ما يخشى صاحبه أن يراه عليه الناس. وكنا سنقول للشاب عبد الله إن في كتاب الله الذي يؤمن به آية تقول: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر».
هذه آية تصل في وضوح معناها إلى حد الوضوح الذي تبدو عليه الشمس في أغسطس (آب)، وتجعل الإيمان والكفر مسألة بين الله وبين العبد، الذي إذا آمن فهو حر فيما يختار، وإذا لم يؤمن فإن له ما اختار، وفي الحالتين سوف يتحمل أمام خالقه عواقب الاختيار.
كنا سنقول للشاب الشيشاني إن ما أقدم عليه في حق مدرس التاريخ، هو أسوأ دعاية يمكن أن يحملها إنسان عن دينه الذي يؤمن به إلى الناس، فضلاً عن أن يكون هذا الدين هو دين الإسلام، الذي لا يتبنى عنفاً ولا يدعو أتباعه إلى عنف، إلا أن يكون دفاعاً عن النفس، وإلا في حالات حددها وأحصاها وحرّم تجاوزها تماماً. وكنا سنقول إن صمويل قد أخطأ بعرض الرسوم المسيئة، ولكن التعامل مع الخطأ الذي ارتكبه لا يكون بارتكاب خطأ آخر أكبر في المقابل، ولا يكون بالاعتداء على حياته، ولا بالطبع يكون بحز رأسه في الشارع، فلا يفعل هذا إلا الدواعش الذين أساءوا إلى الدين بأكثر مما تسيء الرسوم للرسول.
إن رسوماً مسيئة من نوع ما عرضه مدرس التاريخ في مدرسته، لن تنال من مقام نبي الإسلام في شيء، فمقامه عليه الصلاة والسلام قبل عرض الرسوم هو نفسه بعدها، وسيظل هكذا مهما نشرت الصحف غير المسؤولة في الغرب من رسوم، ومهما تداولها المسيئون، ولكن المشكلة تبقى في أن هذه الرسوم تستثير عاطفة الغضب لدى الذين لا يعرفون كيف يجادلون بالحسنى، والذين لا يعرفون ضبط أعصابهم عند الغضب، والذين لا يعرفون كيف يقدمون جوهر الدين إلى الناس. جوهر الدين الذي يقوم على السماحة حتى مع منتقديه، ولا يتخلى عن الدعوة إلى نشر السلام الذي على أساسه يتعارف الناس ويلتقون.
كنا سنقول للشاب عبد الله، إنه لو رجع إلى القرآن قبل أن ينفذ جريمته، لاكتشف أنه يقول صراحة إن «مَنْ قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً»، وكان سيلاحظ في صياغة الآية أنها تتحدث عن قتل النفس في العموم، بغير أن تحدد ديانة صاحبها، ولو أن الجاني عبد الله تدبر معنى الآية من هذه الزاوية، لكان قد تراجع بالتأكيد عن قتل صمويل، عملاً بأخلاق ومبادئ كتاب الله.
كنا سنقول ونقول، وكنا سنقول الكثير لهما معاً، ولكنهما قضيا معاً. والسؤال هو: ما العمل حتى لا نجد أنفسنا أمام المشهد ذاته من جديد.
العمل في ظني هو ما بادر به الأزهر حين وضع الجريمة في سياقها الصحيح، ثم حين قدم حلاً عملياً يضمن ألا يتكرر ما جرى مرة أخرى. بادر الأزهر في بيان صادر بعد الحادث بساعات، فوصف ما حدث بأنه «جريمة نكراء»، وأن القتل «جريمة لا يمكن تبريرها بأي حال من الأحوال»، داعياً الجميع إلى «التحلي بأخلاق وتعاليم الأديان التي تؤكد احترام معتقدات الآخرين». ثم بادر كذلك إلى الدعوة إلى صياغة تشريع عالمي ملزم. تشريع «يجرم الإساءة للأديان ورموزها المقدسة» من دون فصال.
هذا تشريع يكفي لردع الجميع لو صادف من يتبناه، لأن كل شخص يفكر بعدها في الإساءة للأديان ومقدساتها، سوف يكون على علم مسبق بأن تشريعاً عابراً للقارات ينتظره، وأنه تشريع سوف يعاقب كل واحد يسيء لأي دين ثم يتصور أنه سيفلت من العقاب.
تشريع من نوع «وثيقة الأخوة الإنسانية» التي رعتها حكومة الإمارات في أبوظبي في فبراير (شباط) قبل الماضي، ووقّع عليها الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، والبابا فرنسيس الأول، بابا الفاتيكان. تشريع يضع كل واحد أمام مسؤوليته، فلا تصير الأديان ورموزها نهباً لكل فالت من أي عيار.