بقلم - سليمان جودة
إلى سنوات غير بعيدة مضت، كان المحامي شحاتة هارون حياً بيننا في القاهرة، وكان حاضراً في وسائل الإعلام من وقت إلى آخر، وكان يحلو لبعضها أن يطلق عليه لقباً يقول عنه إنه آخِر يهودي في مصر... وكان اللقب نوعاً من الدعابة مع الرجل!
ولم يكن اللقب دقيقاً بالطبع، فبعد رحيل شحاتة أصبحت ابنته ماجدة رئيساً للطائفة اليهودية في البلد، ومع الوقت تبين لنا أن هذه الطائفة ليست سوى خمسة أفراد يهود، وأن هؤلاء الخمسة هُم تقريباً كل الذين تبقوا من اليهود الذين عاشوا حياتهم بين المصريين، يحصلون على ما يحصل عليه أي مواطن من حقوق، ويقومون بما يجب أن يقوم به كل مصري من واجبات!
وقد كان هذا هو شأن المجتمع في مصر طول الوقت على مدى تاريخه، ولم يكن أحد فيه يستطيع أن يميز مواطناً عن آخر على أساس الديانة، ولا يزال الأمر هكذا إلى هذه اللحظة، وأظن أن هذا هو الأثر الممتد للتاريخ المكتوب الطويل الذي تعرفه الدولة المصرية، فالتاريخ ليس مجرد حروف أو كلمات منقوشة في كتاب، ولكنه جينات حية تجري مع الدم في الشرايين!
وفي النصف الأول من القرن الماضي، عرفت الحياة السياسية القاهرية سياسياً يهودياً شهيراً اسمه يوسف قطاوي، وهو لم يكن وزيراً للمالية في حكومة زيور باشا في تلك الفترة فقط، ولكنه كان عضواً منتخباً في البرلمان، وكان مشاركاً مع طلعت حرب باشا في تأسيس «بنك مصر»، وكان عضواً في الوفد المصري المفاوض مع الإنجليز على استقلال البلاد، وكان أحد أعضاء اللجنة التي جلست تضع دستور 1923، الذي لا يزال يوصف بأنه الدستور الأكثر ليبرالية بين الدساتير المصرية!
ولا بد أن وجود مواطن يهودي نشط على كل هذه المستويات، يعني أن اليهود وقتها كانوا جزءاً من النسيج المصري الحي، تماماً كالوجود القبطي في كل وقت، فكلها كانت مكونات في مجتمع لا يلتفت فيه الفرد كثيراً إلى ديانة الفرد الآخر، وإنما يعنيه أن هذا الفرد الآخر مصري مثله وكفى!
وقد جرت هذه المعاني كلها في خاطري، وأنا أطالع تقريراً نشرته هذه الصحيفة عن يهود البحرين، وكيف أنهم كانوا 1300 في القرن قبل الماضي، وأن هذه كانت الذروة في عددهم هناك، وأن عددهم وصل في مرحلة لاحقة إلى 400، وأن غالبيتهم هاجرت طوعاً بعد عامي 1948 و1967، وأن قلة من الذين هاجروا ذهبت إلى إسرائيل، بينما توزع الباقي على دول مختلفة حول العالم!
ومما جاء في التقرير المنشور صباح الاثنين، أن عقد اتفاق للسلام بين المنامة وتل أبيب، سوف يتيح لهم العودة لزيارة قبور الأجداد، الذين عملوا لسنوات طويلة في التجارة، والعقارات، والصرافة، وفي غيرها من المهن، وأن شمل العائلات اليهودية البحرينية سوف يلتئم بعد العمل باتفاق السلام!
وفي وقت من الأوقات كانت السفيرة البحرينية في واشنطن امرأة يهودية، وكان هذا دليلاً على أن البحرينية كجنسية للمواطن في العاصمة المنامة تسبق ديانته، لأن الدين شأن يخص صاحبه، ولأن أمور الدين أياً كان اسمه إنما تتعلق بما بين الشخص وبين خالقه، خصوصاً على مستوى العقيدة، فإذا ما تعلق الأمر بالمعاملات فلقد قال فيها الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب أحسن ما يمكن أن يقال في هذا المقام، عندما دعا الناس إلى أن يُظهروا له ثم لنا من بعده أحسن ما عندهم، أما السرائر فالله أعلم بها!
وفي تونس كان وزير السياحة في الحكومة السابقة يهودياً، وعندما خطب الرئيس التونسي قيس سعيد في بدء ولايته، قال كلاماً مهماً معناه أنه لا مشكلة عنده ولا عند أي تونسي، مع اليهودي كيهودي، ولا مع اليهودية كيهودية، ولكن المشكلة هي مع خلط الدين بالسياسة في المسألة، بما يجعل الموضوع يتحول من يهودية تمثل ديانة سماوية شأن الإسلام والمسيحية، إلى عقيدة سياسية تأخذ اسم الصهيونية عنواناً لها، ولا ترى شيئاً في الاستيلاء على أرض الغير في فلسطين من دون وجه حق!
والذين يطالعون في تاريخ القرون الثمانية التي بقيها العرب والمسلمون في الأندلس، سوف يلاحظون بسهولة أن اليهود على مدى 800 سنة كانوا أقرب إلى العرب والمسلمين هناك من سواهم، وأنهم حصلوا وقتها على أحسن معاملة، وأنهم خرجوا مع العرب وتوزعوا على شاطئ البحر المتوسط في أكثر من دولة عربية، وأن تلك القرون الثمانية ظلت تمثل لهم ولأحفادهم من بعدهم منطقة من مناطق الحنين على مر السنين!
وفي تاريخ عائلة قطاوي باشا أنه وأنها كانوا أحرص الناس على عدم الخلط بين اليهودية كديانة كانت العائلة تدين بها، وبين الصهيونية كعقيدة سياسية ليس لها أن تستولي على الأرض في فلسطين، ولا أن تبرر ذلك مهما كانت المبررات التي لن تقنع أحداً في كل الحالات!
وربما تكون هذه الأيام التي تشهد عقد اتفاقات سلام بين الدولة العبرية وبين أكثر من دولة عربية، هي أنسب الأيام للتفرقة الواضحة بين المفهومين؛ مفهوم اليهودية التي عاش معتنقوها بيننا بدون مشكلة يشار إليها، لأنهم يدينون بدين سماوي جاء به موسى عليه السلام، وبين الصهيونية كعقيدة سياسية لا يريد معتنقوها أن يروا عذابات شعب فلسطيني جرى الاستيلاء على أرضه، ويساومون في حق هذا الشعب في إقامة دولة مستقلة فوق أرضه التي آلت إليه من الآباء والأجداد!
هذه أيام أجدر من غيرها ببيان الفارق الفاصل بين المفهومين، لأن في غياب هذه التفرقة لن تكون شعوب المنطقة قادرة على العيش في سلام حقيقي!
إن اتفاقات السلام التي جرى إطلاقها يمكن بالفعل أن تحقق مصالح اقتصادية متبادلة بين طرفيها، ولكنها لن تؤسس للسلام الذي تبحث عنه المنطقة، إلا إذا تخلصت إسرائيل من عقيدتها السياسية التي تقف في طريق قيام الدولة الفلسطينية!
وإذا كانت تل أبيب تسعى إلى كسر عزلتها في المنطقة عن طريق هذه الاتفاقيات، فهذا حقها المشروع بالطبع في منطقتها من حولها، ولكنها سرعان ما سوف تكتشف أن ما تسعى إليه سيظل أمراً مؤقتاً، وبمعنى آخر سيظل نوعاً من السراب تطارده، ما لم يقترن برغبة جادة من جانبها في أن يكون للفلسطينيين وطن على أرضهم، وما لم يحصل الفلسطينيون على حق إقامة الدولة التي لا بديل عنها ولو طال غيابها!
وربما يقع جزء من المسؤولية في بيان الحد الفاصل بين الديانة في إسرائيل وبين العقيدة السياسية، على كاهل المواطن الإسرائيلي نفسه، خصوصاً إذا كان من بين أعضاء تيار السلام الذي عرفته الدولة العبرية في مرحلة ما بعد توقيع اتفاق السلام بينها وبين مصر في مارس (آذار) 1979!
لقد نشط هذا التيار في وقت من الأوقات، وكان له وجود ظاهر في المجتمع السياسي الإسرائيلي، وبالذات في المرحلة السابقة على اغتيال إسحق رابين عام 1995!
وليس هناك وقت أنسب لعودة مثل هذا التيار من الوقت الحالي، الذي تنخرط فيه الحكومة الإسرائيلية في اتفاقات سلام مع أكثر من عاصمة عربية. إذ لا يكفي أن تقول حكومة بنيامين نتنياهو إن هذه الاتفاقات ستحقق صالح الطرفين، ولا يكفي أن تروّج لرغبتها في «سلام دافئ» مع هذه العاصمة أو تلك، فالسلام سيكون دافئاً إذا سعى من خلال برنامج زمني جاد إلى قيام الدولة الفلسطينية كهدف، ولن يكون السلام سلاماً، فضلاً عن أن يكون دافئاً، إذا تخلى عن هذا الهدف الأهم!
السلام الدافئ له طريق لا بد أن يسلكه، وهدف أخير لا بد أن يسعى إليه، وبغير الطريق والهدف معاً فإن المنطقة سوف تظل تستهلك وقتها وجهدها في التفاصيل!