لا ينطبق شيء على الحديث الصادر من تركيا إلى مصر كل فترة، إلا المثل الشعبي المصري الذي يقول: «أسمع كلامك أصدقك، أشوف أمورك أستعجب!».
ففي مرة سابقة كان مولود جاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، قد قال إن بلاده طلبت فتح حوار مع القاهرة، وإن الحوار بين الطرفين بدأ أو كاد يبدأ حول قضايا كثيرة مشتركة، وإنه تعطل في المرحلة الأولى من مراحله، وإن السبب كان اعتراض طرف عربي عليه.
ولم يكن هذا في مجمله صحيحاً، فضلاً عن أن يصح في تفاصيله، فمثل هذا الحوار إذا كان قد تعطل بالفعل... بافتراض وجود نية له طبعاً... فليس لأن مصر لا تريده، ولا لأن طرفاً عربياً لم يشأ الوزير أوغلو أن يسميه قد اعترض عليه، ولكن لأن الطرف الذي أطلقه أو تحدث عنه وعن رغبته فيه إنما هو طرف غير جاد.
هذا كل ما في الأمر، وما عداه تفاصيل صغيرة لا تنتج في الدعوى كما يقول أهل القانون، إذا أرادوا التفرقة بين الجاد وبين غير الجاد من الأمور.
ولن يختلف الأمر في شيء إذا كان ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، قد خرج هذا الأسبوع ليطلق تصريحاً آخر عبر وكالة الأناضول الرسمية في أنقرة. وقد كان تصريحه يعزف اللحن ذاته الذي كان أوغلو يعزفه من قبل.
قال أقطاي حسب نص كلامه المنشور في هذه الصحيفة صباح الاثنين، إن «علينا أن نقيم السلام في ليبيا للحفاظ على وحدتها واستقرارها، وهذه الرؤية لا مجال للاعتراض عليها، ويجب أن يتم التوافق على ذلك»... ثم يستكمل أقطاي فيقول: «لو اتفقنا على هذا الأمر، فستكون كل مصالح المصريين مصونة، بينما يجب على المحتلين الذين يريدون احتلال ليبيا أن ينسحبوا منها».
وفي موضع آخر من تصريحاته راح الرجل يضيف: من المستحيل أن يقوم الجيش المصري بشن حرب ضد تركيا، فهذا أمر غير عقلاني بالمرة، ولا يوجد له أي سبب أو مبرر. الجيش المصري جيش عظيم، ونحن نحترمه كثيراً لأنه جيش أشقائنا.
وهناك مقتطفات أخرى يمكن لمن شاء أن يعود إليها، ولكني أريد أن أكتفي منها بهذا القدر، تاركاً للقارئ الكريم أن يقارن بين هذه الأقوال التي لا تكاد تتوقف على الجانب التركي إلا لتنطلق من جديد، وبين الأفعال على الأرض وفي البحر من الجانب نفسه. وهي تصريحات تأتي مرة على لسان وزير خارجيتهم، ومرة أخرى يطلقها المتحدث باسم الرئاسة التركية، ومرة ثالثة يخرج بها علينا أقطاي مستشار الرئيس.
ولا بد أن أي مقارنة من هذا النوع، سوف تعيدنا إلى معنى المثل الشعبي المصري المشار إليه، لأنه يعبر عن مخزون من الخبرة والتجربة على مر السنين، ولأننا سوف لا نجد بديلاً عن ترديده ونحن نطالع كلام المستشار، كما رددناه من قبل مع كلام متحدث الرئاسة ومع كلام الوزير جاويش، وكما سنردده بالتأكيد في المرات القادمة مع كل حديث مشابه، ما لم يكن بينه وبين الأفعال على الأرض اتساق.
ولم يكن وزير الخارجية المصري سامح شكري بعيداً عن السياق الذي يضم أحاديث المسؤولين الثلاثة، حين قال في معرض التعليق على حديث أقطاي من دون أن يسميه، إن الأفعال في ملف العلاقات المصرية التركية هي الفيصل لا الأقوال.
والحقيقة أن المسألة هي هكذا بالضبط، على مستوى العلاقات بين الأفراد، وكذلك على مستوى العلاقات بين الدول، لأنه لا يكفي أن تقول للآخرين إنك إنسان جيد، وإنما لا بد إذا أردت أن يصدقك الآخرون أن تكون جيداً بالفعل، وأن يقوم دليل على ذلك مما تتصرف به وتتحرك على أساسه، وإلا، فإن الآخرين لن يتوقفوا عن تصديقك وفقط، وإنما رصيدك من الثقة عندهم سوف يتبدد بالتدريج.
ففي يوم سابق كنا نسمع الوزير جاويش يتحدث هذه اللهجة، وكنا إذا أردنا تصديقه نفاجأ في المقابل بأن حكومة بلاده لا تتوقف عن إرسال عناصر الميليشيات والمرتزقة إلى حكومة فائز السراج في طرابلس غرب ليبيا، وكنا نجد صعوبة بالغة في تصديق الكلام، لأنه كلام يظل نظرياً، ولأنه كلام لا يطابق مقتضى الحال كما يقال في الحالات المماثلة.
وفي يوم آخر كنا نقرأ لمتحدث الرئاسة في العاصمة التركية كلاماً باللهجة ذاتها وكنا نرغب في تصديقه، ولكننا كنا نفاجأ في الوقت ذاته بأن حكومته تصف اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر وبين اليونان بأنها باطلة، مع أن حكومة إردوغان تعرف جيداً أنها اتفاقية جرى توقيعها وفق مبادئ القانون الدولي الحاكمة للعمل في البحار، ثم جرى إيداعها الأمم المتحدة في نيويورك، لتصبح اتفاقية دولية نافذة شأنها شأن غيرها من الاتفاقيات المشابهة بين شتى الدول.
وفي يوم ثالث كنا نطالع للمستشار أقطاي ما طالعناه هذا الأسبوع، وكنا نتمنى لو كان صادقاً فيما يقول، ولكننا كنا في الوقت نفسه نرى أن سياسات إردوغان بشأن وجوده في ليبيا، وبشأن وجود عناصر ميليشياته هناك، هي هي لا تتغير ولا تتبدل.
ولم يكن السلوك التركي يختلف في ذلك عن السلوك الإيراني تجاه المنطقة في العموم، ثم تجاه الخليج والسعودية في القلب من الخليج على وجه الخصوص.
كم مرة سمعنا الرئيس الإيراني حسن روحاني يتحدث عن رغبة لدى طهران في الحوار مع الرياض، وفي بدء صفحة جديدة مختلفة على مستوى العلاقات بين العاصمتين، وفي أن يكون المستقبل على غير لون الحاضر والماضي بينهما، وفي... وفي... إلى آخر ما تابعناه مراراً على لسان روحاني، وعلى لسان وزير خارجيته محمد جواد ظريف في بعض المرات.
تابعناه كثيراً وكثيراً، ولكننا كنا نلتفت إلى سلوك إيران المخرب في اليمن، أو في لبنان، أو في العراق، أو في سوريا، لنكتشف أن ما يقول به روحاني ومعه ظريف، لا أثر له على الأرض، وأنهما في أشد الحاجة إلى مراجعة الكلام قبل إطلاقه، وأنهما في أشد الحاجة أيضاً إلى لفت انتباه مرشد الثورة علي خامئني، إلى أن للناس عقولاً تستقبل الكلام فتفرزه وتميز فيه بين الزائف والصواب.
ولو شاء المسؤولون الأتراك الثلاثة، فإن عليهم أن يلفتوا انتباه الرئيس التركي إلى الشيء نفسه، وإلا، فإننا سوف لا نستطيع منع أنفسنا من المقارنة بين ما يصدر عن العاصمتين التركية والإيرانية من أقوال، وبين ما ترتكبانه من أفعال مناقضة في مقابل الأقوال.
وليس من معنى لهذا التناقض الصارخ بين القول والفعل لدى العاصمتين، سوى أن ما يقولان به إنما يخرج عنهما من دون قناعة بمضمونه، وأنه بالكثير يقال لمجرد الاستهلاك المحلي في الإقليم، وأن القناعة به لا بد أن تنتج أفعالاً أخرى غير التي نراها أمامنا.
على أنقرة أن تغير في السلوك، بدلاً من التزيين في الكلام، إذا كانت راغبة بالفعل في بدء مسار مختلف مع القاهرة، وكذلك على طهران أن تفعل بالضبط، إذا كانت تعني ما تقوله أحياناً عن رغبة في الجلوس مع الرياض على طاولة واحدة، لأن الكلام جرى اختباره في الحالتين، فلم يصمد وكان يسقط في كل اختبار.