أوروبا الباحثة عن مؤلف

أوروبا الباحثة عن مؤلف!

أوروبا الباحثة عن مؤلف!

 العرب اليوم -

أوروبا الباحثة عن مؤلف

بقلم - سليمان جودة

سوف يكتب التاريخ فيما بعد، أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، كانت حالة فريدة بين كل الذين شغلوا موقع المستشارية في بلادها!
وهل هناك ما هو أدل على ذلك من أن مهاجرين كثيرين إلى ألمانيا راحوا يطلقون اسمها على أطفالهم في مرحلة ما بعد 2015؟! لقد فعلوا ذلك على سبيل الاحتفال بالمستشارة التي غادرت كرسي الحكم أمس، بعد أن سلمت مقاليد السلطة إلى أولاف شولتز زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
ولا بد أن بعضاً من الذين تابعوا عملية التسليم والتسلم قد راح يردد ما يقال في مثل هذه الحالة، عن أن سيدةً في بأس ميركل (الحزب الديمقراطي المسيحي) ستظلم القادم من بعدها بالتأكيد، وأن هذا القادم سيجد أنه طرف في مقارنة بينه وبينها لا دخل له فيها، ولا ذنب، ولا جريرة!
ومَن يدري؟! ربما يكشف خليفتها عن قدرات خاصة لم تظهر فيه بعد، تماماً كما وضعوا السادات في مقارنة مع عبد الناصر عند رحيله عام 1970، ولكن الأول ما لبث حتى فرض نفسه على العالم، وليس في المحروسة وحدها، وما لبث حتى قيل عن رحلته إلى إسرائيل إنها تشبه هبوط أول إنسان على سطح القمر، وما لبث حتى قيل عنه من فرط اتساع دائرة شعبيته في الولايات المتحدة أيام الرئيس جيمي كاتر، إنه لو رشح نفسه في سباق الرئاسة إلى البيت الأبيض فسيكسب السباق!
شيء من هذا يمكن أن يكون شولتز متمتعاً به، ولكن ذلك ستثبته تجارب الأيام وحدها وتقوله، ولا أحد قادراً على القطع به منذ الآن. فالتجربة ستقوله عنه إذا قام هو بتشكيل الحكومة الجديدة، وستقوله عن غيره إذا تشكلت الحكومة على يد سواه، فأظهر من القدرات ما يوضع في مقام المفاجآت.
وهذا نفسه كان قد حدث مع المستشارة المغادرة قبل 16 سنة، لأنها يوم تسلمت الحكم كانت قادمة من ألمانيا الشرقية، وكانت بالكاد معروفة في ألمانيا الغربية التي زال السور الشهير بينها وبين الشرقية في 1989، ولم يكن أحد من الألمان ولا من غير الألمان يستطيع في ذلك الوقت المبكر أن يتنبأ بما إذا كانت المستشارة الجديدة أيامها ستملأ مقعدها أم لا؟!
كانت تتحسس خطواتها، وكانت تريد بينها وبين نفسها أن تعيد ألمانيا إلى حيث يجب أن تكون على خريطة أوروبا، وكانت قدراتها كامنة لم تتكشف بعد، وكانت تعرف أن أمامها أسماء ألمانية كبيرة سبقتها في مكانها من وزن المستشار هيلموت شميت على سبيل المثال.
وليس سراً أن شميت عاصر السادات في الحكم، ثم عاش بعد اغتيال الرجل خلال العرض العسكري عام 1981، وقد عاش فيما بعد واقعة الاغتيال يردد أنه كلما راقب تفاقم أزمة دولية من بعيد، أحس بافتقاد عقلية السادات التي كانت قادرة على التعامل مع مثل هذه الأزمات بحكمة، وصبر، ودهاء!
ولكنّ أداء المستشارة من أول يوم جلست فيه على مقعدها في دار المستشارية، إلى يوم أمس عندما سلمت أوراقها وغادرت، يشير إلى أنها تقف مع شميت في صف واحد.
وليس من المستبعد أن يقال عنها في مقبل الأيام ما عاش شميت يقوله عن السادات، وأن يتذكرها القادة والساسة في القارة الأوروبية كلما اعترضت طريقهم مشكلة من نوع ما كان يعترض سبيلهم في وجودها، وكانت هي تتعامل معها ببراعة، وكفاءة، ومهارة!
وإذا كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قد بقي طوال فترة رئاسته الأولى التي ستنتهي ربيع السنة القادمة، يراهن على أنه سيخلفها في قيادة القارة، فلقد خلا له الطريق الآن، وصار في إمكانه أن يسود في قارته ويقود، ولكن ذلك ليس كلاماً وفقط بالطبع، لأنه محكوم بأداء سياسي على الأرض يحكم له عند المقارنة في المستقبل بينه وبينها أو يحكم عليه.
ولا يكفي أن تكون مجلة «تايم» الأميركية قد خرجت ذات يوم فوضعت صورته على غلافها، ثم كتبت تحت الصورة أن صاحبها هو الرجل القادم في أوروبا. لا يكفي هذا لأنه مجرد تنبؤ سياسي قد يصيب وقد يخيب بالدرجة نفسها، ولا مجال إلى اليوم للقول بأنه صائب أو خائب.
ولا تزال ميركل تشبه في لحظة المغادرة لاعب كرة قرر ترك الملاعب في عز مجده وتفوقه. إنها تشبه هذا اللاعب الذي يغادر وفي أُذنه تصفيق الجماهير له على لحظات إحراز الأهداف فيما مضى من أيام، ثم يغادر وهو يسمع صدى تصفيق الجماهير ذاتها وراءه، ويغادر وهو عارف بينه وبين نفسه بأنها ستصفق له أيضاً كلما أطل في أي مكان، وكلما صادفه معجب من المعجبين في أي ميدان!
لا تزال هكذا لأنها تغادر وفي فؤاد كل مهاجر إلى بلادها ذكرى رائعة عنها، بعد أن انحازت إلى كل إنسان كان قد قصد بلادها مهاجراً، وبعد أن راحت تتطلع إلى المهاجرين الذين قصدوا بلادها جميعاً، على طريقة الأديب التنزاني عبد الرزاق جورنا، صاحب نوبل في الأدب هذه السنة!
كانت تتعامل معهم على أنهم ثروة في النهاية، إذا ما جرى إدماجهم في سوق العمل، وإذا ما عرف صانع القرار الألماني كيف يوظّفهم في نطاق اقتصاد البلد كله، وكيف يجعل منهم قوة مضافة إلى جسد الاقتصاد، بدلاً من أن يعيشوا عبئاً عليه.
وكان جورنا قد عاش يكتب هذا المعنى وينادي به منذ أن غادر بلاده إلى بريطانيا 1968، ولكنها عاشت في الحكم تؤمن بهذا المعنى وتمارسه، وعاشت سنواتها الأخيرة تترجمه من دعوات مكتوبة في أدب صاحب نوبل، إلى عمل حقيقي يلمسه كل مهاجر اختار بلدها وجهة له ويراه بعينيه.
ورغم أنها تملك مادة خاماً لمذكرات سياسية يمكن أن توزع ملايين النسخ حول العالم، ورغم أن مذكراتها المفترضة يمكن أن تملأ عليها حياتها في مرحلة ما بعد المغادرة، إلا أنها لم تشأ أن تتاجر بهذه القضية، ولم تشأ أن تطلق بها بالونة اختبار لدى دور النشر، ولكنها تركت الأمر لوقته، وكانت ولا تزال كلما سألوها في الموضوع ابتسمت وتكلمت في موضوع آخر.
هي تريد أن تغادر في هدوء، رغم أنها عاشت أيام السلطة في صخب. وهي تريد أن تفكر في «لا شيء»، على حد تعبيرها، حين سألوها قبل فترة عمّا سوف تفعله في المستقبل، أما إذا كان عليها أن تفكر في «شيء» لاحقاً، فهذا موضوع محكوم بوقته وتوقيته!
والظاهر أن أوروبا ستقضي فترة بعدها، بينما لسان حالها هو لسان حال الكاتب الإيطالي بيراندللو في مسرحيته الشهيرة «ست شخصيات تبحث عن مؤلف». ستعيش القارة الأوروبية تبحث عن قائد يملأ مقعد المستشارة، وستظل حائرة بين حلم شولتز بأن يكون على قدر ما يتوقع منه الألمان بعدها، فلا تبدو ثياب الحكم أوسع أو أكبر من مقاسه، وبين رغبة ماكرون في أن يحل الإليزيه محل دار المستشارية في التنسيق والقيادة، فلا تبدو «تايم» متنبئة بما لا محل له في واقع الحال.
واليوم سيدعو الرئيس الفرنسي إلى مؤتمر صحافي يحدد فيه أولويات بلاده، عندما تتولى رئاسة الاتحاد الأوروبي لستة أشهر بدءاً من أول السنة المقبلة، ولا بد أنها صدفة غريبة أن يجد نفسه مدعواً إلى رئاسة الاتحاد بعد أيام من مغادرة المستشارة موقعها، وكأن الأقدار تفرش أمامه الطريق إلى ما يريده، أو إلى ما رأته المجلة الأميركية فيه وهي تضع صورته على غلافها ثم تتنبأ بمستقبله.
فهل سيكون ماكرون هو بيراندللو أوروبا بالمعنى السياسي، لا المعنى الأدبي الوارد في مسرحية الكاتب الإيطالي؟! هذا ما سوف تقوله الممارسة والتجربة على مستوى القارة، لا الكلام في المؤتمر الصحافي أو في غيره من منصات الحديث، لأن هذه كانت الطريقة العملية التي توجت ميركل زعيمة لسنوات من عُمر الاتحاد، وهذه نفسها هي الطريقة يمكن أن تؤهل رئيس فرنسا أو غيره للجلوس في مكانها!
ولكن أياً كان المؤلف الذي ستعثر عليه دول الاتحاد الأوروبي وهي تفتش عن مؤلف يجمعها، فلن يكون المهاجرون ضيوفاً كراماً على مائدته كما عاشوا سنين على مائدة المستشارة، فلقد كانوا يجدون على مائدتها ما لا يجدونه في ست وعشرين عاصمة تتناثر على خريطة القارة العجوز!

arabstoday

GMT 03:41 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

ثلثا ميركل... ثلث ثاتشر

GMT 03:35 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

مجلس التعاون ودوره الاصلي

GMT 03:32 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

عندما لمسنا الشمس

GMT 03:18 2021 السبت ,18 كانون الأول / ديسمبر

رسالة إلى دولة الرئيس بري

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوروبا الباحثة عن مؤلف أوروبا الباحثة عن مؤلف



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 22:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله
 العرب اليوم - كريستيانو رونالدو يدرس تأجيل اعتزاله للعب مع نجله

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

1000 يوم.. ومازالت الغرابة مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:49 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد الأوروبي يؤجل عودة برشلونة إلى ملعب كامب نو

GMT 14:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئاسة الفلسطينية تعلّق على "إنشاء منطقة عازلة" في شمال غزة

GMT 06:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا لـ3 مناطق في جنوب لبنان

GMT 12:26 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت

GMT 13:22 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يناشد البابا فرانسيس التدخل لوقف الحرب

GMT 13:29 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

رئيس دولة الإمارات وعاهل الأردن يبحثان العلاقات الثنائية

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 06:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يعلن عن مكافأة 5 ملايين دولار مقابل عودة كل رهينة

GMT 14:17 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نادين نجيم تكشف عن سبب غيابها عن الأعمال المصرية

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

يسرا تشارك في حفل توقيع كتاب «فن الخيال» لميرفت أبو عوف
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab