كان مثقفًا من طراز فريد ، متعدد المواهب والقدرات.. هل يُصنف روائيًا أم كاتبًا صحفيًا أم محللًا سياسيًا أم رائدًا لأدب الرحلات، أم واحدًا من أفضل كتاب السير الذاتية ؟ هو كل هؤلاء.. إنه أنيس منصور، من أقرب الكتاب إلى قلبي.. فقد عرفته سنوات طويلة منذ التقينا لأول مرة فى نهاية الستينيات، وكان رئيسًا لمجلة آخر ساعة ، وكنت قد التحقت بالأهرام.. عرفت أنيس عن قرب طوال مشوارى الصحفى ، وكانت بيننا حوارات وخلافات ومواقف، وبقى بيننا قدر كبير من التقدير والود..
> كانت بينى وبين أنيس مساحات من الحوار، لم تخلُ أحيانًا من الاختلاف ، وإن حملت له دائمًا كل مشاعر الإعزاز والصدق.. فى بداية علاقتنا، كنت أزوره كثيرًا فى أخبار اليوم ، وكان يعتبرها بيته.. فى مكتبه، عرفت نجوم الأخبار: على أمين، وإبراهيم سعدة، وسعيد سنبل، وجمال بدوي، وحسن شاه .. كانت الأخبار تختلف كثيرًا عن الأهرام، حيث كانت الأخبار أكثر انفتاحًا، بينما كانت الأهرام أكثر وقارًا .. لم يخلُ الأمر من مقالب أنيس منصور معي.. كنا نتحدث وسألني: «أين أنت؟» قلت : «فى الأهرام».. قال: «تعال»، وذهبت إليه فى الأخبار .. انتفض من مكتبه واستقبلنى على باب مكتبه وهو يهلل : «أهلاً يا فندم، نورت معاليك».. شعرت بأن هناك مصيبة.. كان يجلس فى المكتب رجل مهيب.. قدمنى له أنيس: «يا فندم، أقدم لك شقيق رئيس وزراء إيران عباس هويدا أقدم لك عثمان بك العبد، رئيس إعلانات الأخبار».. وهنا انطلق عثمان العبد: «يا فندم، أخو معاليك رئيس الوزراء يعطى كل إعلانات إيران للأهرام».. وأكمل حديثه، وهنا دخل الأستاذ على أمين وسمع القصة.. حين عرف عثمان العبد مقلب أنيس منصور، وأننى محرر فى الأهرام، ترك المكتب ومضى..
> بعد أن قرر الرئيس أنور السادات إنشاء مجلة أكتوبر، طلب منى أنيس أن أكون مديرًا للتحرير بجانب عملى فى ديسك الأهرام.. خصص لى مكتبًا فى أكتوبر ، وكنا نلتقى كل يوم ليلًا لنناقش مشروع المجلة الجديدة.. حين انتهى المشروع، ذهب أنيس بالعدد الجديد إلى الرئيس السادات، واحتفلنا بالمناسبة.. بعدها بأيام، دعوت أنيس لتناول الغداء فى الأهرام، ودعوت معه الدكتور فؤاد إبراهيم.. انتظرت وفوجئت بالاستقبال فى الأهرام، حيث أخبرونى بأن 27 ضيفًا مدعوون للغداء مع أنيس منصور، وقد وصلوا جميعًا.. تجمع الضيوف، وأنا لا أعرف شيئًا عنهم. جاء أنيس وشغل الضيوف كافيتريا الأهرام وقال: «كل هؤلاء قرائى، كل واحد فى الطريق كان يقول لى أنا أقرأ لك». كنت قد دعوته للغداء معنا، يومها دفعت راتب الشهر قيمة الغداء..
> عانيت كثيرًا مقالب أنيس منصور.. وذات يوم قلت له: «جاء الوقت لكى نفترق وأودع المجلة الوليدة .. لقد شاركت فى إعدادها حبًا وتقديرًا لك.. جاء الوقت لكى أعود إلى قلعتى التى لا أستطيع أن أتركها، الأهرام.. قال: «لم تأخذ منا مقابلًا».. قلت: «نحن أصدقاء قبل أى شيء».. كان أنيس صحفيًا يفضل أن يكتب المجلة من الغلاف إلى الغلاف، وقد اعتاد ذلك فى الجيل وآخر ساعة وأكتوبر.. أنهى أنيس مهمته فى مجلة أكتوبر وجاء كاتبًا فى الأهرام.. كان مقاله اليومى «مواقف» من أكثر الأبواب قراءة.. شاءت الأقدار أن نكون فى مكتبين متجاورين أكثر من عشرين عامًا.. كنا نلتقى ونتحاور، وإن بقيت بيننا خلافات فى السياسة كثيرًا ما ابتعدنا عنها.
> كان أنيس منصور من المؤيدين للسلام مع إسرائيل، وكان من المشاركين فى كامب ديفيد.. زار إسرائيل أكثر من مرة والتقى عددا كبيرا من الكتاب والصحفيين الإسرائيليين.. كان يعلم أننى كنت ضد كامب ديفيد، وأن السلام مع إسرائيل قضية مستحيلة.. لم نكن نناقش ذلك إلا على استحياء، واحترمنا جوانب الخلاف بيننا.. دعانى يومًا إلى الغداء، وفوجئت بأن معنا صحفية إسرائيلية.. تركت الغداء واعتذرت.. كتبت يومًا عن مشروع لبيع مبنى الجامعة الأمريكية فى ميدان التحرير، وقلت إن إسرائيل تسعى لشراء المبنى ليكون سفارتها فى القاهرة.. ثارت الدنيا يومها ، وطلبنى أنيس.. ذهبت إليه فى مكتبه ، وكان السفير الإسرائيلى يجلس معه.. خرجت ولم أصافح السفير، واعتبرت ذلك من مقالب أنيس منصور.
> ذات يوم خاصمنى أنيس منصور، وعرفت السبب.. كنت قد انتهيت من كتابة مذكرات الموسيقار محمد عبدالوهاب، التى أوصى قبل رحيله، وهى بخط يده، أن تسلمها زوجته السيدة نهلة القدسى لي.. لم أخبر أحدًا بذلك ، وإن علم جلال معوض بالحكاية.. كان أنيس وجلال ومفيد فوزى وعدد من الصحفيين فى ضيافة الأمير بدر بن عبدالعزيز، رئيس الحرس الوطنى السعودي، وكان من أقرب أصدقاء عبدالوهاب.. قال جلال معوض: «إن فاروق جويدة انتهى من كتابة مذكرات عبدالوهاب من أوراقه الخاصة التى أوصى بتسليمها له».. هنا انزعج أنيس لأننى لم أخبره بالقصة.. عاد أنيس من الرياض، ووجدته يقف أمامى فى مكتبى ويسألني: «أنت بتكتب مذكرات عبدالوهاب؟» قلت: «نعم». قال: «ولماذا لم تخبرني؟» قلت: «لأن الموضوع حتى الآن لا يعرفه أحد».. قال: «هل كتب عني؟» قلت: «نعم وقد حذفت ما كتب». قال : «أريد أن أطلع على ما كتب». قلت: «لا أستطيع، هناك أشياء حذفتها ولن أنشرها». خرج أنيس غاضبًا، وخاصمنى بسبب ذلك عامًا كاملًا.. كان عبدالوهاب قد كتب فى أوراقه الخاصة آراء فى عدد من الأشخاص قد تسيء لهم أو تحسب عليه، ورأيت أن أستبعدها حتى لا يساء فهمها.. وكان منهم العقاد وأنيس منصور وبليغ حمدى ووردة وغيرهم، وبقى ذلك سرا بينى وبين نفسى احتراما لذكرى الرجل.
> كان أنيس من وقت لآخر يخرج على الناس ببدعة جديدة ، وإن اتسم بعضها بالجدية، حين فتح قضية الوجودية وسار على نهج الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر.. ولم ينسَ أنيس أن يطرح قضية تحضير الأرواح، التى شغلت الناس زمنًا طويلًا.. عندما سافرت إلى الهند، طلب منى أنيس بعض الكتب عن تناسخ الأرواح، وعندما أدى فريضة الحج كتب كتابًا بديعًا عن لحظات صوفية زارته فى الأماكن المقدسة.. كان مغرمًا بالتغيير فى كل شيء، ولم يحب أحدًا فى حياته أكثر من حبه لنفسه.. كان يعشق إنسانًا اسمه أنيس منصور، ولذلك كانت تجربة مرضه من أكثر لحظات الألم فى حياته، وقد عاناها كثيرًا.
> كانت بيننا مناطق خلاف خاصة فى السياسة.. قلت له يومًا: «هناك ملايين يقرأون لك ، كيف تستبدلهم بقارئ وحيد؟» كانت علاقة أنيس وأنور السادات أقرب إلى الصداقة، ولكن أنيس خسر بسببها الكثير، خاصة أنه لم يكن يحب عبدالناصر، وكتب فيه «عبدالناصر المفترى علينا».. اختلف مع هيكل رغم أنهما كانا صديقين، وربما تحمل جزءًا كبيرًا من خصومات السادات ودفع ثمنها.. كنت أحمل مشاعر حب عميقة لأنيس منصور، وكانت له مواقف معى لا أنساها.. كثيرًا ما تولى الدفاع عنى فى أزمات كثيرة مع سلطة القرار.. وحتى فى الخلافات بيننا، كنا نتصافى ونتحاور، وإن بقى كل منا على موقفه وقناعاته.
بقى أنيس منصور من أعز وأقرب أصدقاء العمر والزمن الجميل.
..ويبقى الشعر
وَكانتْ بيْننا ليـْلـةْ
نثرْنا الحبَّ فوقَ ربـُوعهَا العَذراءِ فانتفضتْ
وصَارَ الكونُ بستـَانا
وفوقَ تلالها الخضْراءِ
كم سكرت حَنـَايانـَا
فلم نعرفْ لنا اسمًا
ولا وَطنـًا وعـُنواناًَ
وكانتْ بيننَا ليـْلــْة
سَبحتْ العُمرَ بينَ مياههَا الزرقـَاءِ
ثم َّرَجعتُ ظمآنا
وكنتُ أراكِ يا قدرِي
مَلاكاً ضلَ مَوطنَه
وعاشَ الحبَّ إنسَانـَا
وكنتُ الرَّاهبَ المسجُونَ فى عَيْنيكِ
عاشَ الحبَّ مَعصيةً
وذاقَ الشوقَ غـُفرانَا
وكنتُ أمُوتُ فى عينيك
ثمَّ أعُود يَبْعثــُني
لـَهيبُ العطرِ بُركانـَا
وكانتْ بيننَا ليلةْ
وَكانَ المْوجُ فِى صَمْتٍ يُبعثرُنـَا
علىَ الآفاق ِشُطآنــَا
ووَجهُ الليلِ
فوقَ الغيمةِ البيْضاءِ يحمِلنا
فنبْنى مِنْ تلال ِالضّوءِ أكـْوانـَا
وكانتْ فرحة ُالأيامِ
فى عينيكِ تنثــُرنِى
على الطرقاتِ ألحانـَا
وَفوقَ ضِفافكِ الخضْراءِ
نامَ الدهرُ نشوَانـَا
وأَقْسَمَ بعد طولِ الصَّدِّ
أنْ يطوِى صَحائفنَا وَيَنسانـَا
وكانَ العمرُ أغنية ً
ولحـْنـًا رائع َالنغمَاتِ
أطرَبنـَا وأشجَانـَا
وكانتْ بيـْننا ليلةْ
جلستُ أُراقـِبُ اللحظَاتِ
فِى صمت ٍتودّعُنـَا
ويجْرى دمعُها المصْلوبُ
فوقَ العْين ألوانَا
وكانتْ رِعشة ُالقنديلِ
في حـُزن ٍتـُراقبـُنا
وتـُخفِى الدمْعَ أحيَانـَا
وكانَ الليلُ كالقنَّاص يَرصدُنَا
ويسْخرُ منْ حكايانـَا
و روّعنَا قـِطارُ الفجـْر
حينَ أطلَّ خلفَ الأفـْق سكـْرانَا
تـَرنحَ فى مَضاجعِنا
فأيقظنا وأرّقنـَا ونادانـَا
وقدّمنا سنين العمرِ قـُربـَانا
وفاضَ الدَمعُ
فى أعماقنا خوْفــًا وأحزانا
ولمْ تشفعْ أمام الدهِر شكــْوانا
تَعانقنا وصوتُ الرّيح فى فزعٍ يُزلزِلـنا
ويُلقى فى رماد الضوءِ
يا عمْري بقايانـَا
وسَافرنَا
وظلتْ بيننَا ذكـْري
نراهـَا نجْمة ًبيضاء
تخـُبو حينَ نذكُرهَا
وتهْربُ حينَ تلقانـَا
تطُوف العمرَ فى خَجلٍ
وتحْكى كلَّ ما كانـَا
وكانتْ بيننَا ليلةْ
قصيدة «كانت بيننا ليلة» سنة 1996