زكى نجيب محمود عواصف الشك وشواطئ اليقين

زكى نجيب محمود.. عواصف الشك وشواطئ اليقين

زكى نجيب محمود.. عواصف الشك وشواطئ اليقين

 العرب اليوم -

زكى نجيب محمود عواصف الشك وشواطئ اليقين

بقلم : فاروق جويدة

 كان نموذجا للعقلانية المنفتحة، وكان أديبا فى أسلوبه وتحليلاته.. ما بين العقل والروح كان مشواره الذى حاول أن يسافر فى آفاق الكون، باحثا عن تناقضاته وفكره وإبداعه.. عاش مهموما بقضايا الإنسان: ثراء وفقرا وحرية واستبدادا.. فى كل حالاته ومواقفه، عاش مؤمنا بالحوار والتعددية وحق الإنسان فى الفكر والإبداع والعقيدة وكان شديد الاعتزاز بنفسه.. إنه د. زكى نجيب محمود، أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، كما أطلق عليه كاتبنا الكبير عباس العقاد..

 

◙عرفت د. زكى نجيب محمود فى سنوات مشواره الأخيرة، حين كان يكتب مقالا أسبوعيا فى الأهرام.. كنت مشرفا على صفحات الأهرام الثقافية، وكنا نلتقى كل خميس فى مكتب الأستاذ توفيق الحكيم، وكان يجمع نخبة من كبار كتّاب مصر: نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وعبدالرحمن الشرقاوي، وصلاح طاهر، وأنيس منصور، وإحسان عبدالقدوس، وثروت أباظة، ولويس عوض، وبنت الشاطئ، ويوسف جوهر.. كان د. زكى نجيب محمود أقل الحاضرين كلاما وكان أكثرهم تاملا، وكان حريصا على أن يشارك فى ثلاث قضايا إذا طُرحت : الدين والعلم والعقل.. وكثيرا ما كانت هذه القضايا تفرض نفسها وتدور حولها الحوارات.. كان يعجبنى فى أحاديث د. زكى منطق الأشياء وقوة العبارة وشموخ الفكر..

◙ توطدت العلاقة بيننا وبدأت أزوره فى بيته أمام كوبرى جامعة القاهرة على نيل الجيزة.. كان قد اشترى هذه الشقة بعد أن عاد من الكويت، وكان أستاذا زائرا فى جامعاتها سبع سنوات، وعاد إلى مصر واستقر فيها مع رفيقة مشواره، د. منيرة حلمى وهى أستاذة جامعية فاضلة.. اعتدت أن التقى الدكتور زكى بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع. نتحاور فى كل القضايا.. لم يكن يحب السياسة كثيرا، وكانت له تحفظات كثيرة عليها فى عالمنا العربى ؛ فقد كان ليبرالى الهوى، يؤمن إلى أبعد مدى بحرية الفكر والإبداع..

◙ لم ينكر د. زكى الأثر الكبير الذى تركته تجربته فى إنجلترا، حين حصل على رسالة الدكتوراة، ولم يتراجع عن إيمانه العميق بالعلم، وأن أساس التقدم هو العقل الذى اعتبره أعظم هدايا الخالق للبشر.. كانت لدى د. زكى مجموعة من الثوابت الفكرية والعقلية، ولم يفقد إيمانه بالثقافة العربية ودور مصر الحضارى والتاريخى فى خدمة البشرية.. كان محبا للشعر العربي، خاصة شعر المعري، وكان عاشقا للأدب، ويحب اللغة الرصينة المشعة.. كان لديه حس أدبى رفيع انعكس فى كتاباته حين يجتمع الأدب مع المنطق وحيرة العقل وجنوحه احيانا.. كثيرا ما كانت الحوارات تدور بيننا، وكنت أحب أن أجادله فى قضايا العقل وكيف يضيف للإبداع خيوطا ذهبية تمنحه العمق والجلال والحكمة.. كثيرا ما جنحت معه إلى بداياته حين حاول أن يطرح تساؤلات تجاوزت حدود الثوابت وسافرت إلى أعماق فى الفكر، كان البعض يراها تجاوزا، وكان يراها فيضا من نفحات الحرية التى جعلها الخالق حقا من حقوق الحياة.. كان محبا للعقاد المفكر والإنسان والموقف والشموخ، وكان العقاد يضعه فى قمة مفكرى الثقافة العربية ويراه فيلسوفا حقيقيا غير أسماء كثيرة حملت هذا اللقب دون وجه حق..

◙ كثيرا ما توقفت معه عند ثلاثيته البديعة : قصة نفس وقصة عقل وحصاد السنين.. كنت أرى أن هذه الثلاثية تجسد حياة د.زكى نجيب محمود.. كانت قصة نفس حوارا مع الذات بكل مصادر الحيرة والغموض فيها، خاصة إذا كنا أمام فيلسوف يسافر فى أعماق نفسه ويقدم لنا حصاد الرحلة وأسرارها، كتاب «قصة نفس» يتناول جوانب من حياته الخاصة وتجاربه الشخصية والعاطفية.. يصف فيه مشاعره وتفاعله مع الحياة على مستوى شخصى وإنساني.. من بعض أقواله التى تعكس حيرة الإنسان فى بحثه عن معنى وجوده ومكانه فى الحياة، وهو موضوع تناوله د. زكى بتأمل عميق فى حياته الشخصية..

قال : «كان شعورى بالضياع يتسرب إلى نفسى من حين إلى آخر، إذ كنت أبحث عن معنى للحياة، فإذا بى أجدنى فى فراغ لا أستطيع النفاذ إلى جوهره»..

كان كتابه (قصة عقل) أقرب إبداعاته إلى عقله، لأن عقله لم يكن مثل كل العقول.. إنه عقل غاص فى أبعد جوانب الفكر، واكتشف فيها آفاقا لم يعرفها أحد قبله.. كانت رحلة زكى نجيب أعمق أسفاره، وهو يحاور نفسه باحثا عن حقيقة الأشياء والكون والبشر.. واعترف زكى نجيب بحدود العقل، رغم إيمانه العميق بأهمية التفكير العقلاني. حينما قال : «العقل هو الضوء الذى ينير لنا الطريق فى ظلمات الشك، ولكن يجب أن نعلم أن هذا الضوء لا يكشف لنا كل شيء، بل فقط ما نحن مهيئون لرؤيته.» ولخص فلسفته القائمة على البحث المستمر والتفكير المتجدد، وليس الوصول إلى يقين مطلق حينما قال:

«ليس المهم أن تصل إلى إجابات حاسمة، الأهم هو أن تواصل السؤال، لأن السؤال هو الذى يدفعنا إلى الأمام».

◙ كنت أشعر بسعادة عميقة وأنا أسافر فى مشوار زكى نجيب محمود، وهو يطوف بى بين حدائق ذاته وخفايا فكره ويقينه وساعات من الشك لم تترك فيلسوف الثقافة العربية.. كانت من أمتع وأجمل اللحظات التى تقضيها فى رحلة د. زكى نجيب محمود، حين تكشفت أمامه ساحات الهدى واليقين فى آخر أعماله حصاد السنين فهو يشكل تأملاته فى مراحل حياته المختلفة، بعد أن نضجت أفكاره وتجاربه.. يعبر فيه عن حصاد تلك السنين الطويلة من التفكير والعمل فى الفلسفة.. إذا كانت قصة نفس وقصة عقل من المناطق الشائكة التى طرح فيها فيلسوفنا الكبير حيرته وتساؤلاته وشكوكه، فإن حصاد السنين كان شاطئ اليقين، وهو أعظم ثمار الرحلة.. بعد أن تجول د. زكى وسافر بين دروب الفكر والمنطق والبحث عن الحقيقة وتساؤلات العقل التى أرهقت صاحبها، توقف د. زكى على شاطئ اليقين، مسلما، مؤمنا، مقتنعا بأن الإسلام دين العدل والعلم والتقدم، وأنه أعظم الأديان التى تقدس كرامة الإنسان وحريته وحقه فى العدل والسلام..

«إن حصاد العمر ليس بما جمعته من مال أو شهرة، بل بما تركته من أثر فى قلوب الناس وعقولهم».

«الحكمة هى أن تعرف أن الطريق طويل، وأن تحسب خطواتك لا بمقدار سرعتها، بل بما تتركه وراءك من آثار».

◙ لم يكن غريبًا أن يطوف كاتب وفيلسوف مثل د. زكى فى شواطئ الفكر والمعرفة، وأن يعيش تجارب متعددة حتى لو كانت مجالًا للخلاف وفتحت عليه صراعات كثيرة.. فقد شهد التاريخ الإنسانى مواقف كثيرة دار حولها جدل كبير فى الشرق والغرب.. وإن كان د. زكى قد أنهى رحلته على شاطئ أنس إليه وارتاح فيه، وهو شاطئ اليقين، فقد اقترب كثيرًا فى تأملاته من مناطق التصوف التى ألقى عليها كل حيرة العمر ويقين الزاهد وشكوك الفيلسوف.. فقد توقف عن الكتابة فى سنوات عمره الأخيرة بعد أن ضعف بصره ودخل منطقة الظلال قانعًا راضيًا زاهدًا.. وبقيت رحلة د.زكى واحدة من أخصب جولات الفكر فى ثقافتنا العربية وأكثرها عمقًا وجدلا وخلافا..

«عندما ألتفت إلى الوراء لأرى حصاد العمر، أجد أننى لم أحصد سوى التجربة.. ولكنها تجربة علمتنى كيف أعيش وما الذى يستحق الاهتمام وما الذى لا يستحق».

◙ كانت اللحظات التى قضيتها مع د. زكى نجيب محمود مستمعا ومحاورا من أكثر لحظات العمر ثراءً ويقينا وحكمة..

 

 

..ويبقى الشعر

عَادَتْ أَيَّامُكِ فِى خَجَلٍ

تَتَسلل فى اللَّيل وتبكى

خَلفَ الجُدرانْ

الطفلُ العائدُ أعرِفُه

يندفع.. ويمسك فى صَدْرِي

يشعلُ فِى قَلْبِى النِّيرانْ

هدأتْ أيامُكِ مِنْ زمنِ

ونسيتُكِ يومًا لَا أَدْرِى

طَاوَعَنِى قَلْبِي.. فِى النَّسْيانْ

عِطْرُكِ.. مَا زَالَ عَلَى وَجْهِي

قَدْ عِشتُ زَمَانًا أَذكرُه

وقَضَيْتُ زمانَا أَنكَرُه

والليلةُ يأتِى يحملنِي

يجتاحُ حصُوِني.. كالبُركانْ

اشْتَقْتُكِ لحظهْ

عطرُكِ قد عادَ يحاصِرُني

أهَربُ.. والعِطرُ يطارِدُني

وأعودُ إليِه أطاردُهُ

يهربُ فى صَمْتِ الطرقاتْ

أقترب إليه.. أعانقُه

امرأةٌ غيركِ تَحْمِلُهُ

يُصْبِحُ كَرَمَادِ الْأَمْوَاتْ

عِطْرُكَ طَارِدَنِى أزمانا

أهرب.. أو يَهْرَبُ.. وكلانا

يَجْرى مصْلوبَ الخُطُواتْ

◙   ◙  ◙

اشْتَقْتُكِ لحظهْ

وأنا مِنْ زَمَنِ خَاصَمَنى

نبض الأشوَاقْ

فالنَّبضُ الحائرُ فى قَلْبِى

أصبحَ أحزانًا تحمِلُنى

وتطوفُ سَحَابًا.. فى الآفاقْ

أحْلامِي.. صارَتْ أَشْعَارًا ودماءً تنزفُ فى أوراقْ

تُنْكِرُنِى حِينًا.. أنكِرُها

وتعودُ دُموعًا فِى الأحداقْ

قَدْ كُنتُ حزينًا.. يوم نَسِيتُكِ ... يوم دفنتُكِ فِى الأعماقْ

قد رَحلَ العُمْر.. وأنسانَا

صفحَ العشَّاقْ

لَا أَكَذِبُ إِن قُلْتُ بِأَنِّي

اشْتَقْتُك لحظهْ

بَل أكذب إنْ قلتُ بأني

مَازِلتُ أَحَبُّكِ مثلَ الْأَمْسْ

فاليأس قطار يلقينا.. لدُروبِ اليأسْ

والليلةَ عْدتِ.. ولاَ أدرِى لِمَ جَئتِ الآنْ ؟

أحيانًا نذكُرُ موتَانَا..

وأَنا كَفَّنتِكِ فِى قَلْبِي.. فِى لَيْلَةِ عُرْسْ

◙   ◙  ◙

والليلة عُدْتِ

طَافَتْ أَيامُكِ فِى خَجِلٍ

تعبثُ فِى القَلْبِ بِلا اسْتئذانْ

لاَ أكذبُ إن قُلْتُ بِأَنِّى

اشْتَقْتُكِ لحظهْ

لكنى لا أعرف قلبي..

هَلْ يَشْتاقُكِ بعدَ الآن ؟!

arabstoday

GMT 07:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 07:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 07:01 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 06:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 06:56 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 06:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 06:52 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

GMT 06:51 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أنا «ماشي» أنا!.. كيف تسلل إلى المهرجان العريق؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

زكى نجيب محمود عواصف الشك وشواطئ اليقين زكى نجيب محمود عواصف الشك وشواطئ اليقين



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

1000 يوم.. ومازالت الغرابة مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:49 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد الأوروبي يؤجل عودة برشلونة إلى ملعب كامب نو

GMT 14:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئاسة الفلسطينية تعلّق على "إنشاء منطقة عازلة" في شمال غزة

GMT 06:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا لـ3 مناطق في جنوب لبنان

GMT 12:26 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت

GMT 13:22 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يناشد البابا فرانسيس التدخل لوقف الحرب

GMT 13:29 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

رئيس دولة الإمارات وعاهل الأردن يبحثان العلاقات الثنائية

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab