كيف يتغير النظام الدولي

كيف يتغير النظام الدولي؟

كيف يتغير النظام الدولي؟

 العرب اليوم -

كيف يتغير النظام الدولي

بقلم - عبد المنعم سعيد

فى كل منعطف تمر به الحياة البشرية، وسواء أكان صراعًا، أم أزمة، أم اكتشافًا، بحيث يطرح التوقع الأولى أن العالم لن يصير بعد ذلك كما كان من قبل؛ فإن السؤال الذى يطرحه كل المهتمين بالمستقبل يكون: كيف سيكون النظام الدولى؟ النظام أولًا هو عبارة عن مجموعة من المتغيرات التى يتفاعل بعضها مع بعض تفاعلًا نمطيًّا متكررًا، بحيث يمكن مراقبته، وملاحظته، ومعرفة مدخلاته ومخرجاته. وعندما يكون «النظام» مرتبطًا بالدول فإنه غالبًا ما يتسم بالفوضوية، أى أنه نظام سياسى دون حكومة، ودون قواعد مستقرة، وقيم راسخة.

وتحدث هذه الفوضى العالمية لأن كل الدول تتصرف حسب مصلحتها الذاتية، وليس من منطلقات أخلاقية. وباختصار، فإن الجزء الأهم فى تعريف أى نظام هو توزيع القدرات العسكرية والاقتصادية بين الوحدات المشكلة له، وهو الأمر المحدد لعلاقات الدول بعضها مع بعض، خاصة تلك القوى الدولية التى يتعدى تأثيرها حدود دولتها إلى بقية دول العالم، وهذه تعرف بالأقطاب، ومنها يستمد شكل النظام الكلى، وعمّا إذا كان ذا قطب واحد مهيمن، أو ذا قطبين متنافسين، أو متعدد الأقطاب، بحيث يسود بينها تحالفات وتحالفات مضادة. وتكون النظرة إلى هذه الأشكال من «النظام الدولى» على أساس من الصراع والتعاون، ومدى الاعتماد المتبادل، ودور التكنولوجيا وعلاقتها بالوفرة والندرة، ومدى التأثير الذى تقوم به الفواعل من غير الدول فى داخل النظام.

ويصبح السؤال عن مستقبل النظام ملحًا عندما يكون هناك منعطف كبير من ذلك النوع الذى يشير إلى فشل النظام القائم فى القيام بمهمته فى تحقيق الاستقرار أو التوازن اللازم للاستمرار، وهذه توافرت فى عصرنا مع تراكم أزمات المناخ، وكورونا، والحرب الأوكرانية، وحرب غزة الخامسة المهددة بحرب إقليمية كبرى، مصاحبةً بالثورتين الصناعيتين الثالثة والرابعة.

وعندما تكون الحال كذلك، فإن التغيير يبدأ من انطلاق فكرة «المراجعة» للنظام كله. و«المراجعة»، أو Revisionism، هى جزء أساسى من الفكر السياسى الدولى الذى ينظر فى التغيرات المختلفة لتوازنات القوى التى يمكنها أن تأخذ نظامًا إلى آخر. القاعدة هنا هى أنه لا يوجد نظام دولى يدوم إلا بالقدر الذى مكنته «القوة» من ظروف تأتى من العصر، ومن توازناته، وما جاء فيه من تكنولوجيا، وقادة من بشر.

وقبل أكثر من قرنين، واجهت أوروبا ثورتين متزامنتين مع نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر؛ هما: الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية والتكنولوجية، وكانت الثورة الأولى هى التى استهدفت- عمدًا ومباشرة- تحطيم الهياكل والنظم السياسية للدول الأوروبية بأفكارها عن «الحرية»، و«الإخاء»، و«المساواة»، وهى أفكار حملها معه نابليون بونابرت حينما توسع شرقًا حتى وصل إلى موسكو.

لكن الثورة الثانية كانت هى التى أصلت عملية تغيير أوروبا- ومن بعدها- العالم اقتصاديًّا واجتماعيًّا ثم سياسيًّا؛ من خلال الإصلاح، والحداثة، والتقدم بصفة عامة.

كلتا الثورتين كانت وراء تكوين العالم المعاصر، حتى بعد أن هُزِمَ نابليون عام ١٨١٥. وفى أعقاب الهزيمة، قامت أربعة من القوى المحافظة (روسيا، والنمسا، وبروسيا، وبريطانيا) بعملية لإدارة التغيير، والحفاظ على توازن القوى فى القارة الأوروبية لقرابة ١٠٠ عام، حتى نشبت الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤.

وفيما بعد أضيفت فرنسا إلى القائمة، وشكلت القوى الخمس ما أصبح معروفًا باسم “منظومة أوروبا” Concert of Europe لإدارة التغيير، ومواجهة نشوب ثورة أخرى. كلتا الثورتين كفلت مراجعة عميقة بالسلاح والسياسة والدبلوماسية للنظام الدولى السابق على القرن التاسع عشر، وكانت مؤسسة لمنظومة توازن القوى، وحارسة على عمليات إصلاح عميقة للنظم السياسية والاجتماعية، ودافعة إلى التقدم غير المسبوق تاريخيًّا بفعل الثورة الصناعية الأولى.

كيف وصلنا إلى الآن؟

مع مطلع القرن العشرين ذهب العالم الذى كان يدور حول أوروبا بالقوة وعناصرها إلى العالم الجديد، حيث الولايات المتحدة الأمريكية؛ بفعل الوهن الذى حل بالإمبراطوريات العثمانية، والنمساوية المجرية، والروسية، والضعف السياسى الفرنسى فى جمهوريته الثالثة؛ ووهج الوحدة الألمانية الذى يبحث لألمانيا عن مكان تحت الشمس؛ ونشوب الثورة البلشفية فى روسيا، مبشرة بعالم لم تعرفه البشرية من قبل.

أصبح العالم هكذا مختلفًا، وعندما يختلف العالم لا بد أن يتغير النظام الدولى، وهو ما حاوله الجميع بعد الحرب العالمية الأولى؛ من خلال إنشاء «عصبة الأمم» لكى تقود نظامًا دوليًّا جديدًا قائمًا على القانون الدولى، وتسعى إلى عدم تكرار الحرب العالمية مرة أخرى.

لكن الحالة الدولية التى سمحت بتعدد الأقطاب سرعان ما تبين عدم قدرتها على التوافق بعد انسحاب الولايات المتحدة إلى ما وراء المحيط؛ وضعف ذكائها فى التعامل مع الدول المهزومة قادها إلى إشعال شعلة الفاشية والنازية فى أوروبا، التى حاولت مراجعة النظام الدولى للمنتصرين، ولكن النتيجة كانت كسادًا عظيمًا أعقبته حرب عالمية ثانية حدث فى أثنائها أكبر عملية لمراجعة النظام الدولى القائم على تعدد الأقطاب.

كان العالم هذه المرة أكثر ذكاء فى مراجعاته عما حدث من قبل، وكان من الطبيعى أن يعكس النظام الدولى الجديد حالة المنتصرين فى الحرب، فكان التسليم بالمكانة الخاصة للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، وقيام تنظيم دولى جديد متشعب الفروع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو نظام «الأمم المتحدة»، الذى ضم الدول المستعمَرة سابقًا.

وفى العقود الأربعة التالية للحرب بدا أن النظام الدولى قابل للاستقرار القائم على «الوفاق» أحيانًا بين القطبين الرئيسين، و«الحرب الباردة» فى معظم الأحيان. كان للنظام أزمته الحادة أحيانًا، ولكنه بات أكثر إدراكًا لأخطار الحرب النووية، فتوصل القطبان إلى اتفاقيات للحد من التسلح، وتوصل العالم كله إلى اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية.

ولأسباب كثيرة، دخل الاتحاد السوفيتى فى حالة من الوهن السياسى، والاقتصادى، والتكنولوجى خلال سبعينيات القرن الماضى وثمانينياته؛ مما أدى إلى انتهاء الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفيتى، وحلف وارسو التابع له. على الجانب الآخر، كانت الولايات المتحدة قد تخلصت من نتائج حرب فيتنام، ودخلت إلى أعماق الثورة الصناعية الثالثة. عمليًّا، فإن النظام الدولى بات نظامًا للقطبية الأحادية ممثلة فى الولايات المتحدة، ومن ورائها حلف الأطلنطى، والمعسكر الغربى فى عمومه، وبات عليها أن تعيد تنظيم العالم وفق رؤاها الخاصة، وهو ما سُمى «العولمة».

وعلى مدى العقود الثلاثة الثانية (١٩٩٠-٢٠٢٠) كانت قسمات القطبية الأحادية والعولمة هما المحددان الأساسيان للنظام الدولى فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة، ولكنَّ العامين الأخيرين شهدا تغيرات جوهرية، وقع فى مقدمتها أن المعسكر الغربى فى عمومه، والولايات المتحدة خاصةً، واجه قدرًا كبيرًا من الوهن، تجسد فى هزيمة الولايات المتحدة وتراجعها وخروجها من الشرق الأوسط.

فضلًا عن تقلبها السياسى الداخلى بين مذاهب سياسية متعددة أدت فى النهاية إلى انقسام وتشرذم، وعجز عن التوافق المطلوب فى مجتمع سياسى ليبرالى ديمقراطى. وثانيها أن مجىء «الجائحة»، وفشل الولايات المتحدة، ومعها المعسكر الغربى، فى مواجهتها، فضلًا عن قيادة العالم فى التعامل معها أخذ كثيرًا من سمعة القوة والتكنولوجيا الأمريكية.

وثالثها أن الصين التى أخذت فى الاستفادة من العولمة خلال العقود الثلاثة السابقة، صعدت مع الأزمة إلى مكانة القوة العظمى فى النظام الدولى؛ ومن ثم بدأت بدعوات إلى مراجعة النظام الدولى، بحيث تقوم فيه شراكات جديدة تختلف عن الانفراد الأمريكى. ورابعها أن روسيا التى عانت كثيرًا المهانة خلال العقود الثلاثة السابقة، عادت إلى العالم مرة أخرى تحت قيادة فلاديمير بوتين؛ لكى تراجع نظام ما بعد الحرب الباردة. عمليًّا، أصبح هناك نظام جديد ثلاثى الأقطاب، يضم الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وما بقى هو: كيف تجرى التفاعلات والعلاقات بينهم حتى نتحدث عن نظام دولى جديد؟.

* كاتب ومفكر سياسى

ينشر بالتعاون مع مركز الدراسات العربية الأوراسية

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كيف يتغير النظام الدولي كيف يتغير النظام الدولي



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 العرب اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 العرب اليوم - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

1000 يوم.. ومازالت الغرابة مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:49 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد الأوروبي يؤجل عودة برشلونة إلى ملعب كامب نو

GMT 14:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئاسة الفلسطينية تعلّق على "إنشاء منطقة عازلة" في شمال غزة

GMT 06:27 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا لـ3 مناطق في جنوب لبنان

GMT 12:26 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت

GMT 13:22 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الإيراني يناشد البابا فرانسيس التدخل لوقف الحرب

GMT 13:29 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

رئيس دولة الإمارات وعاهل الأردن يبحثان العلاقات الثنائية

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 06:52 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نتنياهو يعلن عن مكافأة 5 ملايين دولار مقابل عودة كل رهينة

GMT 14:17 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نادين نجيم تكشف عن سبب غيابها عن الأعمال المصرية

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 23:34 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

يسرا تشارك في حفل توقيع كتاب «فن الخيال» لميرفت أبو عوف

GMT 08:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

تنسيق الأوشحة الملونة بطرق عصرية جذابة

GMT 09:14 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات أوشحة متنوعة موضة خريف وشتاء 2024-2025

GMT 06:33 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صهينة كرة القدم!
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab