بقلم - عبد المنعم سعيد
لا يوجد تعبير ذائع فى مصر بين الساسة والمثقفين والنخب السياسية والاقتصادية، والعامة فى حياتهم ومناقشاتهم وحواراتهم الزاعقة والهامسة، قدر أن «عدم اليقين» هو عنوان المرحلة أو الحالة التى يعيشها الشخص أو الوطن أو العالم. الحقيقة أنه ربما كان الأمر أبعد من ذلك، حيث كانت دورية «الشؤون الخارجية» الأمريكية، وهى الأشهر فى العالم، هى التى اخترقت حاجز الأسرار بعدد خاص عنوانه «عدم اليقين» أو Uncertainty. العنوان باتت له أصول فى علم الفيزياء عندما يسكن «الجزىء» فإنه يكون مستحيلا معرفة إلى أين سوف يتحرك.
هذه «الجزيئات» تتحرك فى عالم الواقع عندما نجد صراعات لم نتوقعها قبل قيامها، وبعد ذلك لا نعرف متى سوف تنتهى. عندما بدأ الصراع فى سوريا فى أعقاب «الربيع العربى» لم يكن يتصور أحد ليس فقط متى يصل إلى نهاية، وإنما كيف تفرع الصراع الأهلى وتعددت أوجهه بين الجنوب والوسط والشمال والشمال الغربى. نفس القصة حدثت فى السودان التى انقسمت بعد «الربيع السودانى» إلى «مكون مدنى» وآخر «عسكرى»، ثم بات كل منهما منقسما هو الآخر، وباتت ذكرى انقسام السودان إلى شمال وجنوب من قبيل الذكريات. القصة باتت لها أصداؤها فى اليمن التى بدأت بهبة جماهيرية وبات حالها ثلاث وحدات سياسية واحدة شرعية والأخرى حوثية والثالثة «جنوبية». فلسطين التى لم تحصل على الدولة المستقلة انشقت إلى وحدة سياسية فى الضفة الغربية، والأخرى فى قطاع غزة. لم يكن أحد من المصريين يتصور أن الطريق إلى تحرير فلسطين لا يكون إلا من خلال تهديد التجارة الدولية ومنع السفن من المرور فى قناة السويس التى كانت على وشك مضاعفة دخلها.
.. الأصل فى الموضوع أو القضية الإنسانية أن هناك حالة مستمرة ولا تتوقف من التغيير، وهو موجود فى الطبيعة أيضا عندما يجرى التمييز ما بين التغيرات الفيزيائية التى تجعل الماء مثلا يتبخر أو يتجمد، لكن جوهره يظل كما هو على حاله. التغير الكيميائى تجرى فيه تفاعلات تغير من أصل الحالة وتركيب خلاياها وتصبح أمرا مختلفا تماما عما كان أصلها من تركيب. ما يحدث فى العالم كله، وفى الإقليم أيضا - الشرق الأوسط - خرج من حالة الحرب الباردة إلى حالة العولمة، وهى الآن تجتهد لكى تدخل أولا فى حالة من المراجعة التى بعدها لا تكون الأحوال كما كانت قبلها. التكنولوجيا تلعب دورا جوهريا فى هذا الشأن، وفى الفلسفة الماركسية فإنها تنعكس فى أدوات الإنتاج التى تنقل البشر من المجتمع البدائى إلى الزراعى إلى الصناعى إلى الرقمى والآن فإنه يبحث عن إنسان مختلف فى عيشه وإنتاجه وحتى المجال الذى يتجاوز جغرافيا الأرض إلى جغرافيا الأكوان الأخرى. العالم والإقليم يتعامل مع مستويات مختلفة من التغيير، فلاتزال المجتمعات البدائية متواجدة، وهى تتخلص من بدائيتها من خلال الهجرة إلى مجتمعات متقدمة خاضت تجربة الدولة الوطنية والانتقال من الحصان إلى آلة الاحتراق الداخلى إلى الكمبيوتر، والآن فإنها تبحث عن دنيا تسيرها تكنولوجيا الأشياء.
التباين بين المجتمعات يشكل حالات من الخلل ويزيد عدم الفهم الذى هو تعبير آخر عن عدم اليقين، وفى أوقات كانت المعادلة الجوهرية فى العلاقات بين الدول هى الصراع بين الشرق والغرب، وهنا توجد الرأسمالية وفى الأخرى الاشتراكية. وبين هذه وتلك توجد خطوط جغرافية جعلت الدقة سببا فى أزمتين عالميتين حول مدينة برلين العاصمة الألمانية الآن، لكنها قبل ذلك كانت تقع كلها فى داخل ألمانيا الشرقية، لكنها مقسمة أيضا بين المعسكرين كما جرى الاتفاق بعد الحرب العالمية الثانية. الحرب الكورية جرت على خطوط التقسيم بين الشمال والجنوب الكورى، وكذلك جرى الحال فى فيتنام، وبصورة أخرى فى الهند، وثالثة فى فلسطين. وفى هذه الأخيرة لم يكن التقسيم مقبولا لأن القسمة خلقت طموحا للحصول على الأرض التاريخية بين نهر الأردن والبحر المتوسط. فى هذه النقطة لم يعد هناك فارق بين نتنياهو وحماس، رغم أن العالم فى النظر إلى الأزمة الراهنة يعود إلى القسمة السابقة وإن كان نصيب فلسطين تراجع كثيرا عما كان عليه من قبل. هذه الحالة من السيولة وعدم الفهم وانعدام اليقين دفعت الدين كفاعل أساسى فى تفاعلات فيزيائية وكيميائية تجرى فى آن واحد، فحماس أخذت الأمر بعيدا عمن كانت فى يده القسمة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى، وكذلك فعل التوراتيون فى إسرائيل عندما تم، عبر عقدين من السنين، تسييل الكتلة للعلمانية الإشكانيزية الغربية الإسرائيلية، لكى تصبح كتلة صدئة وقديمة وشرقية عتيقة لا تعرف الكثير عن العقلانية.
ما يجعل التغيير أكثر تعقيدا أنه على المستويات العالمية والإقليمية أصبحت قوافل الهجرة من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال معجلا كيماويا بتفاعلات تولد تغييرات عميقة فى مشروعات كبرى مثل وجود الاتحاد الأوروبى حينما خرجت بريطانيا منه. ولعلها فى نفس الوقت فتحت الأبواب لكى تتولد نوبات اليمين المتطرف فى أمريكا الشمالية والقارة الأوروبية، ومنها يجرى الحث على توسيع حلف الأطلنطى فتقوم الحرب الروسية الأوكرانية. ومن الجائز تماما أن حرب غزة الخامسة خطفت الألباب تماما بعيدا عن الحرب الأوروبية، لكنه اختطاف مؤقت جرى فيه بالفعل توسيع حلف الأطلنطى عندما انضمت السويد وفنلندا، ولعل الجولة الأوكرانية مؤجلة الآن من مواقعها الخفيفة انتظارا للحظة تصل فيها الإمدادات الأمريكية لكى تشتعل الحرب من جديد، وساعتها ربما يجرى تجاهل الحديث عن «اليوم التالى» فى الشرق الأوسط، وهو الذى لم يجر ذكره فى حرب أوروبا التى دخلت عامها الثالث.
والحقيقة هى أنه لم يكن اقتراب حلف الأطلنطى من أوكرانيا فقط من أجل تقييد روسيا فى التوازن الدولى، وإنما أيضا تقييد الصين التى رأت القيادة الأمريكية، الرئيس بايدن أنها المنافس الرئيسى. ووفق هذه القاعدة فإن الولايات المتحدة وحلف الأطلنطى سعت إلى أولا: توسيع حلف الأطلنطى فعليا بانضمام السويد وفنلندا لكى يكون الضمانة الأمنية فى أوروبا، وثانيا: إنه طالما كان الاقتصاد العالمى يسير فى اتجاه آسيا، فإن «حلف الاندو باسيفيك» بات ضروريا للأمن الدولى. ما حدث فعليا هو أن الانفجار العالمى الأعظم جرى فى الشرق الأوسط وباتت له تكلفة عالية ينتظر مضاعفتها إذا ما تحولت حرب غزة إلى حرب إقليمية. والنتيجة هى أن أوكرانيا دخلت بالفعل، وبخطوات بطيئة، إلى الاتحاد الأوروبى وهو نصف الطريق إلى المعسكر الغربى، لكنها سوف تظل بعيدة عن الحلف، بينما تسعى واشنطن إلى استعادة بعض من التوازن فى الحرب الروسية الأوكرانية، والاستعانة بالصين من أجل كبح جماح روسيا فى الاستزادة من الأراضى الأوكرانية، بينما يكون فرض القناعة على «كييف» ببقاء الدولة الأوكرانية داخل التحالف الاقتصادى الغربى وكفى فى المستقبل المنظور!
هل يمكن فى ظل هذا الازدحام فى الوقائع أن يكون هناك يقين؟.