بقلم - عبد المنعم سعيد
انتهى الفصل الأخير من ولاية الجمهوري دونالد ترمب، وبدأ الفصل الأول من ولاية بايدن الديمقراطي. لم تكن لا النهاية ولا البداية سلسة ولا رائعة كما هي العادة، ولكنها كانت تراجيدية يوم السادس من يناير (كانون الثاني)، بما جرى فيه من هجوم على «الكابيتول»، ووضع الديمقراطية الأميركية على المحك الذي قُتل فيه خمسة. أما السمعة المهدورة فلم تقدر بثمن، لا مادياً ولا معنوياً. وفي العشرين من يناير بدت الدراما في أمة تتوّج رئيسها وسط 25 ألف جندي جرى البحث في ملفاتهم، ووُجد أن 12 منهم تنطبق عليه مواصفات التطرف واحتمالات الجريمة. وعندما جاء الجمع بكامل مواصفاته من دون ترمب والجماهير كان صمت الميدان كبيراً، ومرقد شهداء الجمهورية حزيناً. وعندما حلَّ وقت حديث الرئيس الجديد بعد القسم، كان خطابه القصير ملخصاً في كلمتين: الشفاء والوحدة، وربما كلاهما واحد. كان ذلك اعترافاً بالحقيقة، وإقراراً للأمل الذي هو أقوى من الأمنية التي فيها كثير من الرغائبية، ولكن الأمل دائماً له طريق ومسعى. وبعد أن أقر بايدن بأن «الديمقراطية سادت في البلاد»، وعد: «سأكون رئيساً لكل الأميركيين» (82 مليوناً انتخبوه، و75 مليوناً انتخبوا منافسه)، وإن «الوحدة هي الطريق للمضي قدماً، ولن نفشل أبداً»، و«يجب أن يعامل بعضنا بعضاً باحترام وكرامة، ومن دون وحدة لن يكون هناك سلام»، و«سأعمل بكل طاقتي على توحيد الشعب الأميركي».
بعد ذلك، بدأ بايدن يقترب بطريقة عملية من تحقيق الهدف بالقول: «لا يمكن تخفيف التوتر من دون تحقيق الوحدة»، وبدا متواضعاً بالقول: «إنَّ القصة الأميركية لا تعتمد على شخص محدد، وما زال أمامنا كثير من العمل الذي سنقوم به».
بداية الفصل الجديد في عمومه مهدئة؛ لأنها تسجل انتصاراً للديمقراطيين بعد أعوام أربعة صعبة، ولحظات أخيرة حرجة تطايرت فيها الشائعات، من أول قيام ترمب بإعلان الأحكام العرفية، وحتى غزو واشنطن بجحافل من المتعصبين. بدا واضحاً أنَّ للديمقراطية «أسناناً» طالما أنكرت وجودها على أساس أنَّها في جوهرها عملية عقلية لإقناع «أغلبية» تقوم بذاتها بحماية النظام. ولكن البداية لا تغني عن حقيقة أن أهداف بايدن متناقضة، فهو يريد الوحدة التي تعيد الحوار بين الديمقراطيين والجمهوريين؛ خصوصاً أن تجربة الأيام الأخيرة أشارت إلى وجود أقلية جمهورية جاهزة للتعاون في إدانة للرئيس والاستعداد لمحاكمته، وحتى جاء حضور مايك بنس نائب الرئيس «السابق» لحفل التنصيب شهادة على جسور قائمة، عمدتها لحظات اختبار عظيمة عند التصديق النهائي على نتائج الانتخابات.
ولكن الوحدة لا تأتي إذا كانت على حساب السياسات التي يريد بايدن ومن ورائه الديمقراطيون إجراءها، وبعضها يعني إلغاء سياسات قائمة لرئيس جمهوري: العودة إلى اتفاقية باريس الخاصة بالاحتباس الحراري، والعودة الأخرى إلى منظمة الصحة العالمية، ورفع الحظر عن هجرة أو زيارة القادمين من بلدان ذات أغلبية إسلامية، ومثيلاتها من إجراءات «ترمبية» صرفة، مثل وقف الدعم الفيدرالي لبناء «الحائط» بين الولايات المتحدة والمكسيك. وهذه كلها لم تكن تخص ترمب وحده، وإنما جماعات كثيرة من الجمهوريين والمحافظين البيض.
على أي حال، فإن هذه الأمور يمكن للجمهوريين التغاضي عنها؛ خصوصاً أنها كما جاءت بقرارات تنفيذية جمهورية، فيمكنها أن تذهب فيما بعد بقرارات جمهورية أخرى؛ ولعل بعضاً من الجمهوريين لا يجد غضاضة فيها.
الطريق إلى الوحدة رغم ذلك ليس مفروشاً بالورود؛ بل إن عليه أطناناً من الشوك، وهنا توجد خلافات جمهورية وديمقراطية تقليدية حول الإنفاق العام. بايدن بالفعل وضع برنامجاً لمقاومة «كورونا» والتخلص منها، قدره 1.9 تريليون دولار؛ ويمهد لبرنامج آخر للإنعاش الاقتصادي 2.7 تريليون دولار؛ وبينما يزيد الإنفاق فإن الموارد سوف تتقلص مع العفو والتخفيض لديون الطلاب، والتوسع في إصلاح البنية الأساسية للولايات المتحدة التي وعد بها أوباما وترمب والآن بايدن، وهي واحدة من وسائله لتحقيق الوحدة. وفوق ذلك كله فإن برنامج بايدن فيما يخص الهجرة إلى الولايات المتحدة يفتح طريق المواطنة إلى 11 مليون مقيم غير شرعي، بما يعني زيادة تكلفة الضمان الاجتماعي والمساعدة الطبية.
الفجوة بين الإنفاق العام والتدخل الحكومي في ناحية، وعجز الموازنة العامة ونتائجها التضخمية من ناحية أخرى، هي مفارقة جمهورية ديمقراطية مستمرة؛ ولكنها تحدث هذه المرة وسط جائحة «كورونا»، وبعد أزمة سياسية حادة، ويمكنها أن تزيد حدة عند مثول دونالد ترمب للمحاكمة أمام مجلس الشيوخ، بما تحتوي عليه من إثارة الأنصار. أغلبية الجمهوريين في مجلس الشيوخ سوف يراجعون قواعدهم الانتخابية، لكي يتعرفوا على مدى فداحة التصويت لصالح إدانة الرئيس الذي كان حتى وقت قريب ملء السمع والبصر؛ وسوف يصبح من الصعب عليهم توفير 17 نائباً جمهورياً لكي يتم الحصول على أغلبية الثلثين اللازمة للإدانة، ومن ثم منع ترمب من الدخول إلى حلبة السياسة الأميركية مرة أخرى، وهو ما يقلبها رأساً على عقب.
ولكن القضية التي قسمت الأميركيين من الأصل كانت الأمور المتعلقة بالعولمة: الهجرة الكثيفة لجماعات ذات طبيعة ثقافية مغايرة، وتقديمها لعمل رخيص، وهجرة المصانع الأميركية إلى بلاد أخرى، وإغراق السوق الأميركية بالسلع الرخيصة القادمة من بلدان ليس فيها نقابات فاعلة، ولا يحصل العاملون فيها على أجور مجزية. هذه الحزمة من الأمور هي التي خلقت قاعدة ترمب في المقام الأول، وهي التي سوف يستند إليها إذا ما قدر له العودة إلى النشاط السياسي مرة أخرى.
هنا، فإن المجتمع المتعدد الألوان الذي يشير إليه بايدن يبدو مناقضاً لما تراه هذه القاعدة من سرقة دول أخرى للثروة الأميركية؛ ويبدو فيها أن قول الملياردير الأميركي وارين بافيت إن الصين كانت تغرف من الثروة الأميركية 500 مليار دولار سنوياً منذ عام 2003 ذائع بشكل كبير، وسرعان ما جرى تعميمه على كافة علاقات أميركا الخارجية في الأمن والسياسة والتجارة. فإذا كان الهدف الاستراتيجي الأعلى لبايدن هو عودة الولايات المتحدة إلى قيادة العالم، فإن تكلفة هذه القيادة سوف تعمق من الفجوة بين جانبي الانقسام الأميركي، وتجعل من تحقيق الوحدة أكثر صعوبة.
شفاء أميركا واستعادتها لوحدتها يحتاج إلى ما هو أكبر في الفهم، وأكثر من الموارد اللازمة، فالحقيقة الموضوعية الكبرى هي أن أميركا وضعت الأسس التكنولوجية لوسائل الإنتاج التي تجعل العولمة حقيقة، وهي ذاتها التي جعلت نصيب أميركا من الناتج العالمي ينخفض من 50 في المائة في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى أقل من 15 في المائة في الوقت الراهن. هذا التراجع فضلاً عن أنه وضع حداً للقيادة الأميركية للعالم، فإنه في الوقت ذاته أعطى الصين ودولاً أخرى نصيباً أكبر على الساحة العالمية.
وببساطة، فإن المضي في إدانة ترمب، مع تجاهل الأسباب التي أدت إلى ظهور قاعدة ترمب، ربما لا يجعل الشفاء والوحدة للولايات المتحدة ممكنين للرئيس الجديد، ما لم تكن هناك أفكار ومشروع جديد يتعدى كل ما عرفته أميركا من قبل