بقلم : عبد المنعم سعيد
ما حدث فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة لم يكن مجرد جولة إضافية جديدة تُضاف إلى ٤٦ جولة جرت من قبل، ولم يكن دونالد ترامب إلا الرئيس ٤٧، وكفى، وبعدها يسير الزمن فى دورته الطبيعية. ما حدث يعبر عن مجموعة من الحقائق التى كانت الانتخابات كاشفة لها، ورغم أن بعضها كان ظاهرًا فإن الظاهر لم يكن معبرًا عن العمق وصلابة الجذور ولا نتائج وجودها وانعكاساتها على أمريكا والعالم. المسألة أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فإن الولايات المتحدة كانت قد واجهت أزمتين من العيار الثقيل: أزمة الكساد الكبير؛ وأزمة الحرب العالمية الثانية والانتصار فيها على الجبهتين الأوروبية والآسيوية.
نتيجة هذه الحالة كانت تغييرًا جوهريًّا فى البنية السياسية الاقتصادية والمذهبية الأمريكية قائمًا على المزيد من تدخل الدولة فى المجتمع والسوق الاقتصادية؛ والمزيد من التحرر الفكرى، بعد أن عاد الجنود من جبهات القتال وهم أكثر مساواة ومعرفة بأحوال عالم آخر. خلقت التجربة عالمين متناقضين: أولهما كان المعرفة بالعالم، الذى رغم تحوله إلى مسارح للعمليات العسكرية فى قارتى آسيا وأوروبا، فإن المعرفة به كانت تعرفًا مباشرًا لملايين من الأمريكيين المحاربين والبنائين بعد الحرب فى إطار مشروع مارشال والمشروعات الأخرى فى اليابان وكوريا والصين مع صلة أكبر بأستراليا. أصبح العالم سوقًا لتبادل السلع والبضائع والأفكار فى ظل سيادة أمريكية غامرة. وثانيهما أنه سرعان ما انقسم العالم إلى قطبين، ودارت عجلة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى. انتهاء الحرب الباردة أقامت الصلة الأمريكية من خلال العولمة ما بين العالمين، وكانت الولايات المتحدة فى المركز تزداد غنى وقوة؛ ولكن فى كليهما باتت مستنزفة بالمسؤولية التى تحملتها لمواجهة كل أشكال المعارضة والمربكات التى تأتى من العالمين النامى والمتقدم.
المسؤولية تجسدت فى مواجهات من نوع جديد، فلم تكن واقعة بين أقطاب دولية بالضرورة؛ وهذه حدثت على أى حال فى الحرب الأوكرانية، وإنما جرت بين تنظيمات من غير الدول، وصلت فى قدراتها القاتلة إلى واشنطن العاصمة ونيويورك، وتسببت فى حرب عالمية مع الإرهاب أخذت أمريكا إلى العراق وأفغانستان؛ ولم يكن الخروج منهما بعد ذلك بأقل ألمًا وتكلفة من عمليات الدخول فيها. الحقيقة الأخرى التى نتجت عن «العولمة» الأمريكية أن ما بدا فيها من اتساع السوق الأمريكية العالمية أدى إلى عملية فرز عالمية فى عمليات الإنتاج. تخصصت أمريكا بإرادتها فى المنتجات الدقيقة للثورتين التكنولوجيتين العالميتين، بينما ورثت الصين وغيرها من دول نامية كل ما كان له علاقة بالثورتين الأولى والثانية.
هذا النوع من تقسيم العمل العالمى حدث فى أمريكا بثمن باهظ، فقد حدث بالفعل ما بين الولايات الزرقاء الزاخرة بالجامعات الكبرى وأودية السيليكون والإبداع الفنى والفكرى على سواحل المحيطين الأطلنطى والباسفيكى؛ والولايات الحمراء التى ورثت الزراعة والتعدين والصناعات الثقيلة، ومعهما الكثير من الإفلاس، حيث كانت مدينة «ديترويت» هى المثال المعبر عن تقسيم العمل الجديد. لم يكن التقسيم مقصورًا على الولايات الزرقاء والحمراء، وإنما على الولايات «الصدئة» والولايات البارقة بالألوان والأضواء والغنى، والتى تخطف الأبصار كالماس الذى لا يصدأ.
الزلزال الأمريكى لم يحدث فجأة، وإنما نما عبر عملية تطورية خلال العقود الثلاثة الماضية، وانعكس فى العملية السياسية وما يعبر عنها من انتخابات دورية ورئاسية. وفى شهر أغسطس 2023 نُشرت ثلاث مقالات عن «التراجيديا الأمريكية»، عرضت فيها لعمليات الوهن السياسى التى جرت منذ بداية القرن الواحد والعشرين حينما كانت انتخابات آل جور فى ناحية وجورج بوش الابن فى ناحية أخرى إشهارًا بأعمق الانقسامات فى السياسة الأمريكية منذ الحرب الأهلية. صعود «دونالد ترامب» إلى الرئاسة الأمريكية كان إيذانًا بتاريخ سياسى جديد للدولة، حتى بعد أن خرج مجبرًا من البيت الأبيض لأن «الترامبية» بقيت راسخة فى المجتمع الأمريكى، وفى ولايات أمريكية بعينها. لم تكن هزيمة ترامب حسمًا لقضية فكرية، إنما كانت معالجة وقتية لقضايا سياسية مركبة يصعب حسم كل منها. لم يعد النظام السياسى الأمريكى قائمًا على حزبين سياسيين يفترقان فى مسائل اجتماعية واقتصادية، ولكنهما يجتمعان فى توافق عام حول الهوية، والرسالة الأمريكية فى العالم وفى التاريخ. هذا التوافق وصل إلى نهايته؛ وكان ذلك بداية وحجر الأساس لما وصلنا إليه الآن، والذى لم تكن نتائج الجولة الأخيرة من الانتخابات سوى بدايته. تجاهل الجمع الفكرى فى الولايات المتحدة وخارجها، وبمَن فيهم كاتب السطور، كيف أن مظاهر الزلزال ودمدماته كانت ترجّ الكون، ولكن أحدًا لم يكن يريد أن يسمع، أو كان يتمنى ألّا يسمع!.