بقلم: عبد المنعم سعيد
تاريخيا كان هناك أنواع من الخيال غير العلمى الذى يستقرئ الحياة والممات ويشكل مجموعة من المعتقدات التى تبقى راسخة بما فيها من دراما وتفاعل المتناقضات. النماذج المتقابلة فيها وجدت فى الأساطير التى من فرط إتقانها وحكمتها خلقت الصورة للآلهة وموقعهم من الخير والشر. أسطورة إيزيس وأوزوريس وحورس ظلت الخيال الذى يفسر على مدى ثلاثة آلاف عام تدفق النيل، ويحقق النماء، ويدفع الناس إلى العدالة التى تحدد الخلق والحساب. الفكرة ذاتها وجدت فى أمم كثيرة وساعدت فى تكوين هويتها ومسارها نحو المستقبل. هذا الخيال لعب دورا فى تشكيل الأمم وتكوين هويتها وتعميق رؤيتها للعالم وفلسفته، وحتى إلى تطور العلوم الإنسانية منها والطبيعية. الدور الذى لعبته قصص مثل ألف ليلة وليلة جعلت «بساط الريح» نواة تصميم الطائرة التى جاء إلهامها من الطيور ورغبة الإنسان فى الانتقال السريع بين العوالم المختلفة. الإنسان المعاصر خلق هو الآخر أساطيره ليس فقط التى فيها «سوبرمان» والرجل العنكبوت، وإنما مضافا لها رؤية للعالم والمملكة الوسطى فى البحث عن «آلهة الخاتم» من خلال التعاون ما بين البشر والجان وقصار القامة.
التقدم الذى جرى للبشرية خلال القرون الثلاثة الأخيرة مع مولد الثورة الصناعية الأولى حتى الوصول إلى الثورة الرابعة الحالية التى شكل الذكاء الاصطناعى فيها حجر الزاوية الآن فى بناء الأمم والتنافس فيما بينها. كل ذلك دفع فى اتجاه بناء الخيال العلمى الذى يتحرك فيه البشر فى لباس «الروبوت»، والعربات التى تجرى بلا سائق، والنباتات التى تتضاعف غلتها، ويبدو الوصول إلى المريخ مع كل ما هو متوقع من مشاكل يجرى حلها بأسرع مما كان «هارى بوتر» يفعل مع السحرة والجان.
الرحلة الطويلة للإنسانية والتى لا تزيد على عشرة آلاف عام جعلت من الخيال صناعات متكاملة يتزايد إحكامها يوما بعد يوم؛ ومع ذلك فإن قدرة الإنسان على التحكم فى نزعاته الشريرة لم تزد على ما كانت عليه عندما التهم التفاحة المحرمة خارجا من الجنة ونازلا إلى الأرض. الدراما الإنسانية ظلت واقعة فى علاقات القوة التى يتصورها الإنسان فى الآلات، ولكنه يفشل تماما فى تنظيم حياته والتحكم فى مصيره.
السياسة تظل علما متخلفا فى إدارة حياة البشر حتى فى بلد متقدم للغاية مثل الولايات المتحدة الأمريكية حيث يذيع القول إن «جميع أشكال الدراما يجب أن تبقى على المسرح» ولا تخرج منه إلى الحياة العامة. فوز ترامب فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية كان خروجا جديدا إلى الحياة العامة؛ ودخوله إلى البيت الأبيض خلق الدراما الجديدة للحياة الأمريكية، ومنها يتسرب إلى العالم. الواقع أن أداء ترامب يشبه الخروج من هذه القاعدة، فالرجل يضع وجهه وشعره فى حالة من «المكياج» الدائم الذى يميل إلى اللون البرتقالى، وهو يدخل ويخرج من أمام الميكروفون كما يدخل ويخرج الممثلون مقدما التهديد والوعيد، والابتزاز والمكايدة. ورغم أنه ليس شخصية حديثة فى الساحة السياسية الأمريكية فقد كان له فترة كاملة سابقة (٢٠١٧- ٢٠٢١)؛ إلا أنه يبدو فى نظر المراقبين كما لو كان تخليقا لشخصيات سابقة كان أبرزها الرئيس الخامس والعشرين ويليام ماكينلى الذى قضى الفترة من ١٨٩٦ إلى ١٩٠١ أى فترة رئاسية كاملة وعام واحد فى الفترة الثانية حينما جرى اغتياله. ماكينلى الذى كان آخر الرؤساء الذين شاركوا فى الحرب الأهلية الأمريكية، كانت لديه نزعة استعمارية إمبريالية توسعية بدأها فى الحرب مع إسبانيا وانتصر فيها منتهزا الفرصة لضم بورتوريكو والفلبين وهاواى ووضع كوبا تحت الوصاية.
محاولات الضم الحديثة لجرينلاند وكندا ربما تأثرت بأفكار ماكينلى التوسعية للمجال الجغرافى الأمريكى ولكنها اختلطت بالحداثة الاقتصادية والعقارية التى تقلم أظافر الحكومة الفيدرالية فى الداخل وتفتح الأبواب للضم فى الخارج؛ وأحيانا تحويل حالات الضم إلى مشروعات كبرى «جميلة» كما أصبح تصوره تجاه غزة. مشروع أمريكا ٢٠٢٥ الذى أعدته مؤسسة «هيرتيج» اليمينية ربما لم يقرأه ترامب كما ذكر بإلحاح ولأنه ليس ممن يحبون القراءة؛ ولكنه جذب إلى إدارته فى كافة المجالات الذين وضعوا هذا المشروع. أسلوب ترامب فى التطبيق يتم عن طريق الصدمة غير المتوقعة، وجعل اهتزاز شجر القضايا حرفة شديدة التعقيد من أجل أن تنزل ثمارها فيكون مجموعة من الانتصارات بأقل الأثمان. هكذا يقول من يرون فى رأس الرجل أملا؛ أما الذين ييأسون منه فإن أغلبهم يحرص حرصا كبيرا على أن تحركات الرجل وأقواله غير مدروسة، وليست نتاج عملية سياسية تجرى فى عقله، وبالتأكيد فإنها ليست نتاج مشاركة مؤسسية من الأجهزة المنوط بها التعامل مع الموضوعات الحساسة. ولكن فيها الكثير من الغزيرة وأحيانا فقدان العقد؛ ولعل أكثر الكلمات المراقبة هى وصف حالة الرئيس بأنها نوع من الجنون Lunacy. الرئيس لا يجرى كثيرا المقابلات الصحفية المباشرة لأن ذلك يفصح عن سنه ويراقب قدراته وملكاته.
من قبل ذكرت فى مقال آخر أن صعود «دونالد ترامب» كان إيذانا بتاريخ سياسى جديد للدولة حتى بعد أن خرج من البيت الأبيض عام ٢٠٢١، لأن «الترامبية» بقيت راسخة فى المجتمع الأمريكى. لم تكن هزيمة ترامب السابقة حسما لقضية، إنما معالجة وقتية لقضايا مركبة يصعب تجاوزها. لم يعد النظام السياسى الأمريكى قائما على حزبين سياسيين يفترقان فى مسائل اجتماعية واقتصادية، ولكنهما يجتمعان فى توافق حول الهوية، والرسالة الأمريكية فى العالم وفى التاريخ. هذا التوافق وصل إلى نهايته. العديد من منتقدى ترامب المحافظين بعد هزيمته وفى أعقاب تمرد ٦ يناير ٢٠٢١ كانوا يأملون عودة الحزب إلى شكله السابق؛ وتكون رئاسة ترامب جملة عابرة. الحزب الجمهورى ينأى عن ترامب والترامبية، ويصبح حزباً بينه وبين الديمقراطيين مساحات من التوافق غير قليلة. هذا الحلم سرعان ما انتهى؛ وكانت رئاسة ترامب هى أول فصل فى دراما سياسية أطول وأكثر سوادا، وأصبح الحزب الجمهورى أكثر تطرفاً. استمرت شعبية ترامب بين الجمهوريين، وشن الموالون لترامب هجمات شرسة ضد المشرعين الجمهوريين الذين صوتوا لمحاكمته لدوره فى التمرد. أظهرت وسائل الإعلام اليمينية تعصبًا متزايدًا، وأظهرت استطلاعات الرأى العام أن ناخبى الحزب الجمهورى يتبنون كذبة ترامب بأن الانتخابات سُرقت منه.
النتيجة هى حالة من الخيال غير العلمى الذى لا يعبر عن نظريات وتطبيقات علمية تخرج منها الدراما الإنسانية شارحة للواقع وملكاته، والمستقبل وما سوف يأتى فيه. «الخيال غير العلمى» يضع التجربة الأمريكية فى اختبار تاريخى للفكرة الليبرالية التى شكلت التاريخ الأمريكى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والاقتراب من العالم فى شكل «عولمة» قربت الدول والأمم ولكنها فى أحوال كثيرة كسرت الحاجز مع الكوميديا. ترامب الآن يأخذ منحنى آخر ليس لليبرالية فيه مكان، فأصدقاؤه فى الداخل قائمون على أفكار عنصرية، وفى الخارج فإنهم يعشقون قائد كوريا الشمالية. وفى العموم فإن القصة لم تنته بعد، وما علينا إلا أن نبحث عنها؟!.