عنصرية «القوميين العرب» تجاه الجزيرة العربية

عنصرية «القوميين العرب» تجاه الجزيرة العربية

عنصرية «القوميين العرب» تجاه الجزيرة العربية

 العرب اليوم -

عنصرية «القوميين العرب» تجاه الجزيرة العربية

خالد الدخيل

 على رغم خطابهم الباذخ في عواطفه القومية إلا أن القوميين العرب تميزوا بشيء لافت، وهو أن لديهم مشكلة مزمنة مع الجزيرة العربية وتاريخها وأهلها. يجهلون تاريخ الجزيرة العربية، بحيث أن معرفة من يعنى منهم بهذا التاريخ تتوقف عند الصدر الأول للإسلام. وعلى رغم ذلك، بل نتيجة له، فإن رؤيتهم للجزيرة العربية وأهلها وتاريخها أنها لم ولن تعرف إلا البداوة والتخلف، بغض النظر عن مرور الزمن، وتغيّر الأجيال وحقب التاريخ. لا مكان للتاريخ في هذه الرؤية. كان أهل هذه الجزيرة، بحسب القوميين، ولا يزالون أسرى حال بداوة منذ ما قبل الإسلام، وحتى يوم الناس هذا. والأغرب في أمر القوميين أن رؤيتهم هذه ليست رؤية بحثية، أو فرضية علمية، وإنما هي موقف إثنولوجي عنصري نهائي، غير قابل للتغيير، يستخدمونه عادة في هجاء أهل الجزيرة متى ما برز معهم خلاف، أو فرض الموقف اللجوء إليه. رأينا في مقالة الأسبوع الماضي كيف وصف الكاتب المصري فهمي هويدي أهل الخليج، وتحديداً السعودية بـ «الأقزام» الذين «يتطاولون في البناء»، كناية عن صفتهم البدوية. الغريب أن هويدي يعتبر أن تطاول هؤلاء في البنيان من أسباب تراجع مصر. وهذا ليس صحيحاً. الأستاذ هويدي ليس قومياً تماماً، بل ينتمي لخطاب إسلامي يتقاطع مع القومية. له جذور قومية، وتأثر كثيراً، كما يبدو، بأستاذه الصحافي المصري الشهير محمد حسنين هيكل.

في زمننا المعاصر كان هيكل من أوائل القوميين الذين تبنوا هذه الرؤية «القومية» للجزيرة العربية. من أبرز الشواهد على ذلك تفسيره للأزمة الخطرة التي فجرها الغزو العراقي للكويت. إذ إنه اعتبر أن الغزو وما نجم عنه تعبير عن صراع بين «أهل مدن الصحراء» (أي البدو)، وأهل «مدن الحضارة». الإيحاء هنا واضح، وهو إيحاء استشراقي. فبغداد كما قال من مدن الحضارة، والكويت والرياض من مدن الصحراء. ومن الطبيعي أن تتوسع مدن الحضارة وتستولي على مدن الصحراء. وحقيقة أن مدن الصحراء هذه حبتها المصادفة الجغرافية بثروة النفط لا يغير شيئاً في المسار الطبيعي للتاريخ. هل لاحظت الإلغاء التام للبعد التاريخي والسياسي والاجتماعي لعامل النفط؟ اللافت أن هيكل كتب ذلك في وقتها في صحيفة «الصنداي تايمز» البريطانية. ثم عاد وأكد عليه بشكل غير مباشر في كتابه الذي صدر عن الأزمة ذاتها. في إطار حديثه عن المراحل الأربع التي مر بها العالم العربي، كما يراها هو. يقول عن المرحلة الثالثة، أو ما بعد حرب السويس في 1956، بالنص: «تلك كانت المرحلة التي فاضت فيها ينابيع البترول وتدفقت عوائده. ولم تكن هذه القوة المتوهجة في يد الجماهير المشتاقة للحق الاجتماعي، وإنما كانت هذه الينابيع وعوائدها تحت تصرف عناصر أخرى في الأمة. وتصادمت الثورة مع الثروة». الإيحاء في هذا الاستشهاد واضح ومباشر: الغزو العراقي للكويت امتداد للصدام نفسه بين «ثورة المدن» و«ثروة الصحراء». وهذه هي النتيجة التي سينتهي إليها تحليل هيكل. لأنه في المرحلة الرابعة «وجدت الأمة نفسها أمام الطريق المسدود». بل أصبحت كل الطرق مسدودة. الغزو بهذا المعنى لم يكن إلا مخرجاً من هذه الطرق المسدودة.

ستلاحظ أنه في النص السابق لهيكل حلت «الجماهير المشتاقة للحق الاجتماعي» محل «مدن الحضارة». والجماهير بمثل هذه الصفة لا توجد عادة إلا في مثل هذه المدن. وحلت في النص ذاته عبارة «عناصر أخرى في الأمة» محل «مدن الصحراء». «العناصر الأخرى في الأمة» هذه هي مبني للمجهول. ليس لها سمات أو معالم يمكن من خلالها التعرف عليها. وهي كذلك لأنها تستمد صفاتها وسماتها من بيئتها الصحراوية المجهولة أيضاً. هذه العناصر المجهولة التي استولت على «ثروة النفط» تقع في إطار الأمة، في مقابل «الجماهير» التي يمكن التعرف عليها مباشرة بسماتها الحضرية، ومن أهم سماتها «شوقها للحق الاجتماعي». كل هذا الكلام ما بين 1990 و1992، أي ونحن نقترب من الألفية الثالثة، وبعد تراجع الخطاب الاستشراقي، ونهاية الحقبة القومية في العالم العربي، وتهاوي المفهوم المادي المباشر للحداثة.

لم ينتبه هيكل إلى أن تقسيمه هذا يتسم بعنصرية لا تنسجم مع المفهوم القومي الذي يفترض أنه ينتمي إليه، ويعبّر عنه. بل لا ينسجم مع التحليل السياسي الذي يدّعي أنه ينطلق من هذا المفهوم. وقد قيل كثيراً أن المفهوم القومي من طبيعته أنه يجنح غالباً نحو شوفينية عنصرية. والمقصود بذلك عنصرية ضد قومية أخرى، أو عنصر قومي آخر. وقد حصل هذا بين الأوروبيين، وبين اليابانيين والكوريين، وبين الأوروبيين والشعوب الأخرى في أفريقيا وآسيا. لكن مأساة المفهوم القومي العربي أن عنصريته موجهة لأحد مكوناته، بل لأول وأهم مكون للقومية ذاتها. فالجزيرة العربية وأهلها هم المهد الأول للجنس العربي. ومن حيث أن الجزيرة هي المكان الذي ظهر فيه الإسلام، تصبح بذلك المكان الأول الذي تشكلت فيه أول أسس ثقافية مفهومية للعروبة تختلف عما كانت عليه قبل الإسلام. وبفعل الفتوحات الإسلامية التي انطلقت من الجزيرة العربية، وقبل ذلك بفعل هجرات القبائل العربية من الجزيرة، حصلت عملية تعريب المناطق المجاورة للجزيرة. وهي عملية طويلة ومعقدة، وأخذت زمناً طويلاً، قبل وبعد الإسلام. يعترف القوميون بهذا التاريخ، ويبجلون الإسلام، والفتوحات الإسلامية، والحضارة الإسلامية. لكنهم في الوقت نفسه يعتبرون أهل الجزيرة العربية خارج الإطار الحضاري، العربي والإسلامي. وفي هذا تناقض حاد يصل إلى حد الاعتراف بالشيء ونقيضه من قبل الشخص نفسه وفي اللحظة ذاتها. وهو تناقض ينم عن وعي شقي بالذات، احتقار مضمر للذات من دون وعي.

يكشف هذا الموقف «القومي» الملتبس ضحالة وتهاوي مفهوم «القومية العربية»، وأنه لم يتأسس على قواعد صلبة ومتماسكة. لا يدل على ذلك فقط المنحى العنصري تجاه السعودية والخليج. الأكثر دلالة على ذلك ما حصل بين أهل المفهوم ذاته، وتحديداً الصدام المرير في ستينات القرن الماضي بين «القومية بصيغتها الناصرية»، مع «القومية بصيغتها البعثية». وقد انتهى هذا الصدام إلى لا شيء. ما يدل على مدى فراغ المفهوم وضحالته. ثم كان هناك الصدام الدموي بين البعث العراقي من ناحية، والبعث السوري من ناحية أخرى. وهو صدام انتهى في الأخير بمفارقة صارخة، بهيمنة إيران الفارسية على كل من العراق وسورية. في العراق تحققت الهيمنة بفعل الغزو الأميركي والتواطؤ الإيراني، وإدخال الطائفية مكان القومية. أما في سورية، فقد سلم الرئيس السوري نفسه، وهو الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، زمام مستقبله لإيران لحمايته أمام ثورة شعبية انزلقت إلى حرب أهلية. المفارقة الأخرى أن هيكل، وهو منظر الناصرية، يتفهم هيمنة إيران على أحد أكبر بلدين عربيين، كان أحدهما (سورية) هو الإقليم الجنوبي لما كان يعرف بـ «الجمهورية العربية المتحدة»!

 

arabstoday

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 03:56 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 03:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 03:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 03:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 03:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 03:37 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

فلسطين وإسرائيل في وستمنستر

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عنصرية «القوميين العرب» تجاه الجزيرة العربية عنصرية «القوميين العرب» تجاه الجزيرة العربية



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 20:21 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

غارة إسرائيلية تقتل 7 فلسطينيين بمخيم النصيرات في وسط غزة

GMT 16:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

صورة إعلان «النصر» من «جبل الشيخ»

GMT 22:23 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

إصابة روبن دياز لاعب مانشستر سيتي وغيابه لمدة شهر

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 18:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحصل على قرض بقيمة مليار يورو من الاتحاد الأوروبي

GMT 10:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الزمالك يقترب من ضم التونسي علي يوسف لاعب هاكن السويدي

GMT 19:44 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

هزة أرضية بقوة 4 درجات تضرب منطقة جنوب غرب إيران

GMT 14:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

استشهاد رضيعة فى خيمتها بقطاع غزة بسبب البرد الشديد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab